فصل: باب إِثْمِ مَنْ كَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب لا يَحِلُّ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ‏:‏ ‏(‏لا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا، فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأحَدٍ قَبْلِى، وَلَمْ يَحِلَّ لِى إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فيه الإبانة عن أن مكة غير جائز استحلالها، ولا نصب الحرب عليها لقتال بعد ما حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وذلك أنه عليه السلام أخبر حين فرغ من أمر المشركين بها أنها لله حرم، وأنها لم تحل لأحد قبله، ولا تحل لأحد بعده بعد تلك الساعة التى حارب فيها المشركين، وأنها قد عادت حرمتها كما كانت، فكان معلوم بقوله هذا أنها لا تحل لأحد بعده بالمعنى الذى أحلت له به، وذلك محاربة أهلها وقتالهم وردهم عن دينهم‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إن قال قائل‏:‏ قد رأينا الحَجَّاج وغيره قاتل مكة ونصب الحرب عليها، وأن القرمطى الكافر قلع الحجر الأسود منها وأمسكه سبعة عشر عامًا، فما وجه ذلك‏؟‏ قيل له‏:‏ معناه بَيِّن بحمد الله، وذلك أن الحَجَّاج وكل من نصب الحرب عليها بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ذلك مباحًا ولا حلالا كما حل للنبى عليه السلام وليس قول الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وقد عادت حرمتها كما كانت، ولا يحل القتال بها لأحد بعدى‏)‏‏.‏

أن هذا لا يقع ولا يكون، وقد يَرِدُ ذلك، وقد أنذرنا عليه السلام أن ذا السويقين من الحبشة يهدم الكعبة حَجَرًا حَجَرًا، وإنما معناه أن قتالها ونصب الحرب عليها حرام بعد النبى صلى الله عليه وسلم على كل أحد إلى يوم القيامة، وأن من استباح ذلك فقد ركب ذنبًا عظيمًا، واستحل محرمًا شنيعًا‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإن قيل‏:‏ فلو ارتد مرتد بمكة، أو ارتد قوم فيها فمنع أهلها السلطان من إقامة الحد عليه، أيجوز للسلطان بها حربهم وقتالهم حتى يصل إلى من يجب عليه إقامة الحد‏؟‏ قيل‏:‏ يجوز ذلك، ولكن يجب على الإمام الاحتيال لإخراجهم من الحرم حتى يقيم عليهم ما أوجبه الله فيهم، والحيلة فى ذلك حصار مانعيهم، والحول بينهم وبين وصول الطعام إليهم وما يُطرون مع فقده إلى إمكان السلطان منهم وممن لزمه حَدُّ الله تعالى حتى يخرج من الحرم ويقام عليه‏.‏

باب الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِم

وَكَوَى ابْنُ عُمَرَ ابْنَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَيَتَدَاوَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، احْتَجَمَ النَّبِىّ عليه السَّلام وَهُوَ مُحْرِمٌ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن بُحَيْنَةَ، قَالَ‏:‏ احْتَجَمَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ، بِلَحْىِ جَمَلٍ فِى وَسَطِ رَأْسِهِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بلحى جمل‏)‏ هو مكان بطريق مكة، واختلف العلماء فى الحجامة للمحرم، فرخص فيها عطاء ومسروق وإبراهيم وطاوس والشعبى، وهو قول الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق، وأخذوا بظاهر هذا الحديث، وقالوا‏:‏ ما لم يقطع الشعر‏.‏

وقال قوم‏:‏ لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة‏.‏

روى ذلك عن ابن عمر، وبه قال مالك، وحجة هذا القول أن بعض الرواة يقول إن النبى صلى الله عليه وسلم احتجم لضرر كان به، رواه هشام بن حسان عن عكرمة، عن ابن عباس ‏(‏أن النبى عليه السلام إنما احتجم وهو محرم فى رأسه لأذى كان به‏)‏‏.‏

ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز له حلق شىء من شعر رأسه حتى يرمى جمرة العقبة يوم النحر إلا من ضرورة، وأنه إن حلقه من ضرورة فعليه الفدية التى قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على كعب بن عجرة، وإن لم يحلق المحتجم شعرًا فهو كالعرق يقطعه، أو الدمل يبطه، أو القرحة ينكأها، ولا يضره ذلك، ولا شىء عليه فيه عند جماعة العلماء‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ فيه من الفقه الإبانة أن للمحرم إذا احتاج إلى إخراج دمه‏:‏ الاحتجامَ والفصدَ ما لم يقطع شعرًا، وأن له العلاج لكل ما عرض له من علة فى جسده بما رجى دفع مكروهها عنه من الأدوية بَعْدَ ألا يأتى فى ذلك ما هو محظور عليه فى حال إحرامه، ثم لا يلزمه بكل ما فعل من ذلك فدية ولا كفارة، وكذلك له بط دمل وقلع ضرس إن اشتكاه؛ لأن النبى عليه السلام احتجم فى حال إحرامه لحاجته إلى ذلك، ثم لم ينقل عنه ناقل أنه حظر ذلك على أحد من أمته ولا أنه افتدى، فبان بذلك أن كل ما كان نظير الحجامة التى هى إخراج الدم من جسده فله فعله، ونظير ذلك بط الحدس، وقلع الضرس، وفصد العِرْق، وقطع الظفر الذى انقطع فتعلق فآذى صاحبه، أن على المحرم قلعه، ولا يلزمه لذلك كفارة ولا فدية‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ أجمعوا أن للمحرم أن يزيل عن نفسه ما انكسر من أظفاره، وأجمعوا أنه ممنوع من أخذ أظفاره، وذكر عن الكوفيين أن المحرم إذا أصابه فى أظافيره أذى فقصها يكفر بأى الكفارات شاء‏.‏

وقال أبو ثور‏:‏ فيها قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ قول الكوفيين، والثانى‏:‏ لا شىء عليه، بمنزلة الظفر ينكسر‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ لا شىء عليه إذا أراد أن يداوى قرحة فلم يقدر على ذلك إلا أن يقلم أظفاره‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ إذا وجعه ضرسه ينزعه، فإن الله لا يصنع بأذاكم، وكذلك إذا انكسر ظفره، وقاله عطاء وإبراهيم وسعيد بن المسيب، وقال عطاء‏:‏ ينتقش الشوكة من رجله ويداوى جرحه‏.‏

وقال عطاء‏:‏ إن أصابته شجة فلا بأس أن يأخذ ما حولها من الشعر، ثم يداويها بما ليس فيه طيب‏.‏

باب تَزْوِيجِ الْمُحْرِمِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ‏.‏

اختلف الآثار فى تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة، فروى ابن عباس أنه تزوجها وهو محرم، وروى أنه تزوجها وهو حلال، والروايات فى ذلك متواترة عن أبى رافع مولى النبى عليه السلام وعن سليمان ابن يسار وهو مولاها، وعن يزيد الأصم وهو ابن أختها‏.‏

فمنها حديث ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم قال‏:‏ حدثتنى ميمونة بنت الحارث‏:‏ ‏(‏أن النبى عليه السلام تزوجها وهو خلال‏)‏ قال يزيد‏:‏ كانت خالتى، وخالة ابن عباس‏.‏

وجمهور علماء المدينة يقولون‏:‏ لم ينكح رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة إلا وهو حلال‏.‏

روى مالك، عن ربيعة، عن سليمان بن يسار ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع مولاه ورجلاً من الأنصار يزوجاه ميمونة بنت الحارث، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قبل أن يخرج‏)‏‏.‏

واختلف الفقهاء فى ذلك من أجل اختلاف الآثار، فذهب أهل المدينة إلى أن المحرم لا يَنكح غيره، فإن فعل فالنكاح باطل، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى، وزيد بن ثابت، وابن عمر‏.‏

وبه قال مالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد‏.‏

واحتجوا أيضًا بحديث مالك، عن نبيه بن وهب، عن أبان ابن عثمان، عن عثمان بن عفان قال‏:‏ سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب‏)‏‏.‏

وذهب الثورى والكوفيون إلى أنه يجوز للمحرم أن ينكح وينكح غيره، وهو قول ابن مسعود وابن عباس وأنس بن مالك، ذكره الطحاوى، وروى عن القاسم بن محمد والنخعى، وحجتهم حديث ابن عباس وقالوا‏:‏ الفروج لا تحل إلا بنكاح أو بشراء، والأُمَّة مجمعة على أن المحرم يملك ذلك بشراء وهبة وميراث ولا يبطل ملكه، فكذلك إذا ملكه بنكاح لا يبطل ملكه قياسًا على الشراء، عن الطبرى، قال‏:‏ والصواب عندنا أن نكاح المحرم فاسد يجب فسخه لصحة الخير عن عثمان، عن النبى عليه السلام بالنهى عن ذلك، وخبر ابن عباس أن النبى عليه السلام تزوج ميمونة وهو محرم‏.‏

فقد عارضهم فيه غيرهم من الصحابة وقالوا‏:‏ تزوجها وهو حلال، فلم يكن قول القائلين‏:‏ تزوجها وهو محرم أولى من قول القائلين تزوجها وهو حلال‏.‏

وقد قال سعيد بن المسيب‏:‏ وَهِمَ ابن عباس وإن كانت بخالته، ما تزوجها إلا بعد ما أحل، وحدثنى يعقوب، حدثنى ابن علية، حدثنى أيوب قال‏:‏ أنبئت أن الاختلاف إنما كان فى نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العباس بين يديه لينكحها إياه فأنكحه‏.‏

قال بعضهم‏:‏ أنكحها قبل أن يحرم، وقال بعضهم‏:‏ أنكحها قبل أن يحرم، وقال بعضهم‏:‏ بعدما أحرم‏.‏

وقد ثبت أن عُمر وعليا وزيدًا فرقوا بين محرم نكح وبين امرأته، ولا يكون هذا إلا عن صحة ويقين‏.‏

وأما قياسهم النكاح على الشراء؛ فإن الذين أفسدوا نكاح المحرم لم يفسدوه من جهة القياس والاستنباط، فلتزمهم المقاييس والنظائر والأشباءه، وإنما أفسدوه من جهة الخبر الوارد عن النبى عليه السلام بالنهى عن ذلك، فالذى ينبغى لمخالفيهم أن يناظروهم من جهة الخبر؛ فإن ثبت لزمهم التسليم له، وإن بطل صاروا حينئذٍ إلى استخراج الحكم فيه من المثال والأشباه، فأما والخبر ثابت بالنهى عن النكاح فلا وجه للمقايسة فيه‏.‏

باب مَا يُنْهَى مِنَ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ

وَقَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ لا تَلْبَسِ الْمُحْرِمَةُ ثَوْبًا بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ رَجُل‏:‏ مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنَ الثِّيَابِ‏.‏

فَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏لا تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ، وَلا السَّرَاوِيلاتِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏وَلا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ، وَلا وَرْسُ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، وَقَصَتْ بِرَجُلٍ مُحْرِمٍ نَاقَتُهُ، فَقَتَلَتْهُ، فَأُتِىَ بِهِ النَّبِىّ عليه السَّلام فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اغْسِلُوهُ، وَكَفِّنُوهُ، وَلا تُغَطُّوا رَأْسَهُ، وَلا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يوم القيامة يُهِلُّ‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ذهب قوم إلى هذه الآثار، فقالوا‏:‏ كل ثوب مسه ورس أو زعفران، فلا يحل لبسه فى الإحرام، وإن غُسل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين فى هذه الآثار ما غسل فى ذلك مما لم يغسل‏.‏

وخالفهم فى ذلك آخرون، فقالوا‏:‏ ما غسل من ذلك حتى لا ينفض فلا بأس بلبسه فى الإحرام؛ لأن الثوب الذى صُبغ إنما نهى عن لبسه فى حال الإحرام لما كان فى دخله مما هو حرام على المحرم، فإذا غسل وذهب ذلك المعنى منه عاد الثوب إلى أصله الأول، كالثوب الذى تصيبه النجاسة، فإذا طهر حلت الصلاة فيه‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وممن رخص فى ذلك‏:‏ سعيد بن المسيب، والنخعى، والحسن البصرى، وعطاء، وطاوس، وبه قال الكوفيون والشافعى وأبو ثور، وكان مالك يكره ذلك إلا أن يكون غُسل وذهب لونه‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه استثناه مِمَّا حرمه على المحرم من ذلك فقال‏:‏ ‏(‏إلا أن يكون غسيلا‏)‏ حدثناه فهد، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا أبو معاوية وحدثنا ابن أبى عمران، حدثنا عبد الرحمن بن صالح الزدى، عن أبى معاوية، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبى عليه السلام بمثل حديثه الذى فى الباب، فثبت بهذا استثناء الغسيل مما قد مسه ورس أو زعفران‏.‏

قال ابن أبى عمران‏:‏ رأيت يحيى بن معين يتعجب من الحمانى إذ حدث بها الحديث‏.‏

وقال عبد الرحمن بن صالح‏:‏ هذا عندى‏.‏

فوثب من فَوْرِه، فجاء بأصله، فأخرج منه هذا الحديث عن أبى معاوية كما ذكره الحمانى فكتبه عنه يحيى بن معين‏.‏

باب الاغْتِسَالِ الْمُحْرِمِ

قَالَ ابْنُ عَبَّاس‏:‏ يَدْخُلُ الْمُحْرِمُ الْحَمَّامَ، وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ بِالْحَكِّ بَأْسًا‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، أنهما اخْتَلَفَا بِالأبْوَاءِ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، فَقَالَ الْمِسْوَرُ‏:‏ لا، فَأَرْسَلَنِى ابْنُ عَبَّاس إِلَى أَبِى أَيُّوبَ الأنْصَارِىِّ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ، وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ أَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِى إِلَيْكَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبَّاس، أَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ رَأْسَهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِى رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لإنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ‏:‏ اصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، وَقَالَ‏:‏ هَكَذَا رَأَيْتُهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ‏.‏

اختلف العلماء فى غسل المحرم رأسه، فذهب أبو حنيفة والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق إلى أنه لا بأس بذلك، ورويت الرخصة فى ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس وجابر، وعليه الجمهور، وحجتهم حديث أبى أيوب، وكان مالك يكره ذلك للمحرم، وذكر أن عبد الله بن عمر كان لا يغسل رأسه إلا من الاحتلام‏.‏

قال مالك‏:‏ فإذا رمى جمرة العقبة فقد حل له قتل القمل وحلق الشعر وإلقاء التفث، وهو الذى سمعته من اهل العلم‏.‏

وروى عن سعد بن عبادة مثل قول مالك، وكان أشهب وابن وهب يتغاطسان فى الماء وهما محرمان مخالفة لابن القاسم، وكان ابن القاسم يقول‏:‏ إن غمس رأسه فى الماء أطعم خوفًا من قتل الدواب، ولا يجب الفداء إلا بيقين، وغير ذلك استحباب، ولا بأس عند جميع أصحاب مالك أن يصب المحرم على رأسه للحرِّ يجده‏.‏

قال أشهب‏:‏ غمس المحرم رأسه فى الماء وما يخاف فى الغمس ينبغى أن يخاف مثله فى صب الماء على الرأس من الحرِّ‏.‏

وقد قال عمر بن الخطاب ليعلى بن منبه حين كان عمر يغسل رأسه ويعلى يصب عليه‏:‏ اصبب فلن يزيده الماء إلا شعثًا، يعنى‏:‏ إذا لم يغسل بغير الماء؛ ألا ترى فعل أبى أيوب حين صب على رأسه الماء حركه بيديه، ولم ير ذلك مما ذهب الشعث، ومثله قوله عليه السلام لعائشة‏:‏ ‏(‏انقضى رأسك فى غسلك وامتشطى‏.‏‏.‏‏)‏ أى‏:‏ امشطيه بأصابعك وخلليه بها، فإن ذلك لا يذهب الشعث، وإن شعثه لا يمنعك من المبالغة فى غسل رأسك؛ لأن الماء لا يزيده إلا شعثًا‏.‏

فابن عباس أفقه من المسور لموافقته النبى عليه السلام وأصحابه، قاله أبو عبد الله بن أبى صفرة‏.‏

وأما إن غسل رأسه بالخطمى والسدر، فإن الفقهاء يكرهون ذلك، هذا قول مالك وأبى حنيفة والشافعى، وأوجب مالك وأبو حنيفة عليه الفدية، وقال أبو ثور‏:‏ لا شىء عليه‏.‏

وقد رخص عطاء وطاوس ومجاهد لمن لُبِّد رأسه فشق عليه الحلق أن يغسله بالخطمى حتى يلين، وكان ابن عمر يفعل ذلك‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وذلك جائز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يغسلوا الميت المحرم بماء وسدر، وأمرهم أن يجنبوه ما يجتنب الحى، فدل ذلك على إباحة غسل رأس المحرم بالسدر، والخطمى فى معناه‏.‏

وأجاز الكوفيون والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق للمحرم دخول الحمام‏.‏

وقال مالك‏:‏ إن دخل الحمام فتدلك وأنقى الوسخ فعليه الفدية، وقال ابن وهب‏:‏ القرنان هما الرِّجْلان اللذان فى جنبتى البئر‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن الصحابة إذا اختلفوا لم يكن الحجة فى قول أحد منهم إلا بدليل يجب التسليم له من الكتاب أو السنة، كما نزع أبو أيوب بالسنة، ففَلَج ابن عباس المسور‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ التناظر فى المسائل والتحاكم فيها إلى الشيوخ العالمين بها‏.‏

وقوله فى الترجمة‏:‏ ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأسًا يعنى‏:‏ حك جلده إذا أكله‏.‏

وقال عطاء‏:‏ يحك الحب فى جلده وإن أدماه‏.‏

باب لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ

- فيه‏:‏ ابْنَ عَبَّاس، خطب النَّبِىّ عليه السَّلام بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمرَ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ‏.‏‏.‏‏.‏‏؟‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ‏)‏‏.‏

اختلفوا إذا احتاج إلى لبس الخفين عند عدم النعلين وقطعهما‏.‏

فقال مالك والشافعى‏:‏ لا فدية عليه، وأخذا بحديث ابن عمر، وقال أبو حنيفة‏:‏ عليه الفدية‏.‏

وهذا مخالف للحديث، واحتج أصحابه وقالوا‏:‏ إن النبى عليه السلام أباح له لباس السراويل عند عدم الإزار، وذلك يوجب فيه الفدية‏.‏

فقال ابن القصار‏:‏ الفرق بينهما أن الخف أُمِرَ بقطعه حتى لا يصير فى معنى النعلين التى لا فدية فى لبسهما، والسراويل لم يمر بفتقه لئلا تنكشف عورته، فبقى فى حكم القميص المخيط، ولو أمر بفتقه لصار فى معنى الخف إذا قطع‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والحجة لمالك قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين‏)‏ ولو وجبت الفدية مع قطعهما وتركهما لم يكن لقطعهما فائدة؛ لأنه إتلاف من غير فائدة، وإنما قطعهما ليصيرا فى معنى النعلين حتى لا تجب فدية، ولا يدخل النقص فيجبر بالفدية، ولو وجبت الفدية بلبسه بعد القطع كما تجب بلبسه قبل القطع لم يأمر عليه السلام بالقطع؛ لأن لبسه بعد القطع كلبسه قبله، فلما جوز له لبسه بعد القطع ولم يجوزه قبله؛ علم أنه إذا لبسه بعد القطع كان مخالفًا لحكمه إذا لبسه قبل القطع فى الفدية‏.‏

باب إِذَا لَمْ يَجِدِ الإزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، خَطَبَنَا النَّبِىُّ عليه السَّلام بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ لَمْ يَجِدِ الإزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

أجمعوا أن المحرم إذا وجد إزارًا لم يجز له لبس السراويل‏.‏

واختلفوا إذا لم يجد إزارًا؛ فقال عطاء والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور‏:‏ يلبسه ولا شىء عليه‏.‏

وأخذوا بحديث ابن عباس‏.‏

وقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ عليه الفدية إذا لبسها سواء وجد إزارًا أم لا إلا أنه يشقها ويتزر بها‏.‏

خَالَفا ظاهر الحديث‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ يحتمل قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل‏)‏ على أن يشق السراويل فيلبسها كما يلبس الإزار، كما يفعل بالخفين يقطعهما أسفل من الكعبين ويلبسهما كما يلبس النعلين، فإن كان أريد بالحديث هذا المعنى فلسنا نخالفه بل نقول به، وإنما الخلاف فى التأويل لا فى نفس الحديث‏.‏

وأما النظر فى ذلك؛ فإنا رأيناهم لم يختلفوا أن من وجد إزارًا أن لبس السراويل غير مباح له؛ لأن الإحرام قد منعه من ذلك، فأردنا أن نعلم هل يوجب لبس ذلك للضرورة كفارة أم لا‏؟‏ فرأينا الإحرام ينهى عن أشياء قد كانت مباحة منها لبس العمائم والقمص والسراويلات، وكان من اضطر فوجد الحر يغطى رأسه، أو وجد البرد فلبس ثيابه؛ أنه قد فعل ما هو مباح له وعليه مع ذلك الكفارة، وكذلك حرّم عليه الإحرامُ حلقَ رأسِه إلا من ضرورة، وقد وجدنا من حلق رأسه للضرورة فعل ما هو مباح له والكفارة عليه واجبة، فكذلك لبس السراويل لا يُسقط لباسُه للضرورة الكفارة، وإنما تسقط الآثام خاصة‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ واحتج المخالفون فقالوا‏:‏ لا يخلو أن يكون أراد عليه السلام جواز لبس السراويل عند الحاجة أو سقوط الفدية فى لبسه، فلا يجوز أن يكون أراد جواز لبسه عند الحاجة خاصة، وقصد ذلك باستثناء السراويل من جملة المخيط؛ وحملُه على ذلك إسقاط لفائدة تخصيص السراويل واستثنائِه من الجملة، فلم يبق إلا أنه أراد سقوط الفدية فى لبسه‏.‏

فقال لهم الآخرون‏:‏ إنما اختص السراويل بالإباحة من جملة المخيط عند عدم الإزار؛ لأن افزار المقصود منه ستر العورة التى هى مكان السراويل، ولا يجوز كشف ذلك الموضع، وموضع القميص من أعلاه يجوز كشفه، فالضرورة فى السراويل أشد منها فى القميص، فهذه فائدة، فإذا لبسه ستر عورته وبقى سائر جسده مكشوفًا بحكم الإحرام، فلم تسقط الفدية كما لم تسقط فى الحلق والطيب للعذر‏.‏

باب لُبْسِ السِّلاحِ لِلْمُحْرِمِ

قَالَ عِكْرِمَةُ‏:‏ إِذَا خَشِىَ الْعَدُوَّ لَبِسَ السِّلاحَ وَافْتَدَى، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ فِى الْفِدْيَةِ‏.‏

- فيه‏:‏ الْبَرَاء، اعْتَمَرَ النَّبِىُّ عليه السَّلام فِى ذِى الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ لا يُدْخِلُ مَكَّةَ سِلاحًا إِلا فِى الْقِرَابِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ كان هذا فى عام القضية‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ جواز حمل المحرم السلاح فى الحج والعمرة إذا كان خوف واحتيج إليها، وأجاز ذلك عطاء ومالك والشافعى، وكرهه الحسن البصرى، وهذا الحديث حجة على الحسن فى كراهيته وعلى عكرمة فى إيجاب الفدية فى ذلك‏.‏

باب دُخُولِ الْحَرَمِ وَمَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ

وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ الرسول صلى الله عليه وسلم بِالإهْلالِ لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِلْحَطَّابِينَ وَغَيْرِهِمْ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَّتَ الرسول صلى الله عليه وسلم لأهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، دَخَلَ الرسول صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اقْتُلُوهُ‏)‏‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ اختلف قول مالك والشافعى فى جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يُرِدْ الحج والعمرة فقالا مرَّةً‏:‏ لا يجوز دخولها إلا بإحرام؛ لاختصاصها ومباينتها جميع البلدان إلا الحطابين ومن قرب منها مثل جدة والطائف وعسفان لكثرة ترددهم عليها، وبه قال أبو حنيفة والليث‏.‏

وقالا مَرَّةً أخرى‏:‏ دخولها بلإحرام استحباب لا واجب‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وإلى هذا القول ذهب البخارى، وله احتج بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ولكل آت أتى عليهن ممن أراد الحج والعمرة‏)‏ فدل هذا أن من لم يرد الحج والعمرة فليست ميقاتًا له، واستدل أيضًا بدخوله عليه السلام عام الفتح وعلى رأسه المغفر وهو غير محرم، وبهذا احتج ابن شهاب، ولم يره خصوصًا للرسول صلى الله عليه وسلم، وأجاز دخول مكة بغير إحرام، وهو قول أهل الظاهر‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ قول أبى حنيفة وأصحابه فى أن من كان منزله فى بعض المواقيت أو دونها إلى مكة فله أن يدخل مكة بغير إحرام، ومن كان منزله قبل المواقيت لم يدخل مكة إلا الإحرام، وأخذوا فى ذلك بما روى عن عمر أنه خرج من مكة وهو يريد المدينة، فلما كان قريبًا من قديد بلغه خبر من المدينة فرجع فدخل حلالا‏.‏

وقال آخرون‏:‏ حكم أهل المواقيت كحكم من كان قبلها‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وليس النظر قول أصحابنا؛ لأننا رأينا من يريد الإحرام إذا جاوز المواقيت حلالا حتى فرغ من حجه ولم يرجع إلى المواقيت كان عليه دم، ومن أحرم من المواقيت كان محسنًا، وكذلك من أحرم قبلها، فلما كان الإحرام من المواقيت كحكم الإحرام مما قبلها لا فى حكم الإحرام مما بعدها؛ ثبت أن حكم المواقيت كحكم ما قبلها لا كحكم ما بعدها، فلا يجوز لأهلها من دخول الحرم إلا ما يجوز لأهل الأمصار التى قبل المواقيت، فانتفى بهذا ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، ووجدنا الآثار تدل على خصوص الرسول صلى الله عليه وسلم بدخولها غير محرم بقوله‏:‏ ‏(‏إنما أحلت لى ساعة من نهار فلا تحل لأحد بعدى، وقد عادت حرامًا إلى يوم القيامة‏)‏ فلا يجوز لأحد أن يدخلها إلا بإحرام؛ وهو قول ابن عباس والقاسم والحسن البصرى‏.‏

قال المؤلف‏:‏ والصحيح فى معنى قوله‏:‏ ‏(‏لا تحل لأحد‏)‏ يريد بمثل المعنى الذى حل للنبى عليه السلام وهو محاربة أهلها وقتالهم وردهم عن دينهم، على ما تقدم فى باب ‏(‏لا يحل القتال بمكة‏)‏ عن الطبرى‏.‏

وهو أحسن من قول الطحاوى أن الذى خص به عليه السلام دخول مكة بغير إحرام‏.‏

واحتج من أجاز دخولها بغير إحرام أن فرض الحج مرة فى الدهر، وكذلك العمرة وهى مرة فى الأبد، فمن أوجب على الداخل مكة إحرامًا فقد أوجب عليه ما أوجبه الله‏.‏

وفى قتل النبى صلى الله عليه وسلم لابن خطل فى الفتح حجة لمن قال أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل مكة عنوة، وهو قول مالك وأبى حنيفة وجماعة المتقدمين والمتأخرين، وقال الشافعى وحده‏:‏ فتحت صلحًا‏.‏

وفائدة الخلاف فى هذه المسألة ما ذهب إليه مالك والكوفيون أن الغانمين لا يملكون الغنائم ملكًا مستقرا بنفس الغنيمة وأنه يجوز للإمام أن يمنَّ ويعفو عن جملة الغنائم كما منَّ على الأسرى وهم من جملة الغنائم، ولا خلاف بينهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم مَنَّ على أهل مكة وعفا عن أموالهم كلها‏.‏

قال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ إنما قتل ابن خطل؛ لأنه كان يسب النبى صلى الله عليه وسلم وقد عفا عن غيره ذلك اليوم ممن كان يسبه، فلم ينتفع ابن خطل باستعاذته بالبيت ولا بالتعلق بأستار الكعبة، فدل ذلك على العنوة، وعلى أن الحدود تقام بمكة على من وجبت عليهم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإن قوله يوم الفتح‏:‏ ‏(‏من دخل البيت فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن‏)‏ يعارض قتله لابن خطل يوم الفتح‏.‏

فالجواب‏:‏ أنه لا معارضة بينهما؛ لما رواه ابن أبى شيبة قال‏:‏ حدثنا أحمد بن مفضل، حدثنا أسباط بن نصر وقال‏:‏ زعم السدى عن مصعب، عن سعد، عن أبيه قال‏:‏ ‏(‏لما كان يوم فتح مكة أَمَّنَ النبى عليه السلام الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال‏:‏ اقتلوهم إن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة‏:‏ عكرمة بن أبى جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح‏)‏‏.‏

وسأذكر شيئًا من معنى فتح مكة فى كتاب الجهاد فى حديث ابن خطل فى باب‏:‏ قتل الأسير والصبر‏.‏

واستدل المالكيون من حديث ابن خطل أن من سب النبى يُقتل ولا يستتاب كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بابن خطل‏.‏

باب إِذَا أَحْرَمَ جَاهِلا وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ

وَقَالَ عَطَاءٌ‏:‏ إِذَا تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ جَاهِلا أَوْ نَاسِيًا فَلا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ‏.‏

- فيه‏:‏ يَعْلَى، أتى النَّبِىّ عليه السَّلام رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ، وبهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏انزع الجبة، واصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِى حَجِّكَ‏)‏‏.‏

هذا الباب رد على الكوفى والمزنى فى قولهم أنه من لبس أو تطيب ناسيًا فعليه الفدية على كل حال، وقولهم خلاف لهذا الحديث؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر الرجل بالكفارة عن لباسه وتطيبه قبل علمه بالنهى عن ذلك، وإنما تلزم الكفارة من تعمد فعل ما نُهى عنه فى إحرامه، ولو لزمه شىء لبيَّنه له عليه السلام، وأمره به ولم يجز أن يؤخر ذلك‏.‏

وذهب مالك إلى أن من تطيب أو لبس فنزع اللباس وغسل الطيب فى الحال فلا شىء عليه‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا شىء عليه وإن طال وانتفع‏.‏

والشافعى أشد موافقة للحديث؛ لأن الرجل كان أحرم فى الجبة المطيبة، فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك فلم يجبه حتى أوحى إليه وسُرى عنه، فطال انتفاع الرجل باللبس والطيب ولم يوجب عليه النبى عليه السلام كفارة، وقول مالك احتياط؛ لأن الحلق والوطء والصيد نُهى عنه المحرم، وحُكْمُ العمد والسهو فيها سواء إذا وقعت، وكذلك الصوم لو أكل فيه وهو ساهٍ لفسد الصوم، فكذلك الحج‏.‏

وفى هذا الحديث رد على من زعم أن الرجل إذا احرم وعليه قميص أنَّ له أن يشقه، وقال‏:‏ لا ينبغى أن ينزعه؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد غطى رأسه وذلك لا يجوز له، فلذلك أُمر بشقه، وممن قال هذا‏:‏ الحسن والشعبى والنخعى وسعيد بن جبير‏.‏

وجميع فقهاء الأمصار يقولون‏:‏ من نسى فأحرم وعليه قميص أنه ينزعه ولا يشقه‏.‏

واحتجوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الرجل بأن ينزع الجبة ولم يأمره بشقها، وهو قول عكرمة وعطاء‏.‏

وقد ثبت عنه عليه السلام أنه نهى عن إضاعة المال، والحجة فى السنة لا فيما خالفها‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وليس نزع القميص بمنزلة اللباس؛ لأن المحرم لو حمل على رأسه ثيابًا أو غيرها لم يكن بذلك بأس ولم يدخل بذلك فيما نهى عنه من تغطية الرأس بالقلانس وشبهها؛ لأنه غير لابس؛ فكان النهى إنما وقع من ذلك على ما يلبسه الرأس لا على ما يغطى به، وكذلك الأبدان إنما نُهى عن إلباسها القمص ولم يُنه عن تجليلها بالإزار؛ لأن ذلك ليس بلباس المخيط، ومن نزع قميصه فَلاقَى ذلك رأسه فليس ذلك بإلباس منه شيئًا، فثبت بهذا أن النهى عن تغطية الرأس فى الإحرام المعهود فى الإحلال إذا تعمد فعل ما نهى عنه من ذلك قياسًا ونظرًا‏.‏

باب الْمُحْرِمِ يَمُوتُ بِعَرَفَةَ

وَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِىُّ عليه السَّلام أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ بَقِيَّةُ الْحَجِّ - فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ النَّبِىِّ عليه السَّلام بِعَرَفَةَ؛ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ، أَوْ قَالَ‏:‏ فَأَقْعَصَتْهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِى ثَوْبَيْنِ، أَوْ قَالَ‏:‏ ثَوْبَيْهِ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّى‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ يدل أنه لا يحج أحد عن أحدٍ؛ لأن الحج من أعمال الأبدان كالصلاة لا تصح فيها النيابة عن غيره، ولو صح فيها النيابة لأمر النبى عليه السلام بإتمام الحج عن هذا، كما أنه قد يمكن ألا يتبع بما بقى عليه من الحج فى الآخرة والله أعلم لأنه قد بلغ جهده وطاقته ووقع أجره على الله بقوله‏:‏ ‏(‏فإنه يبعث يوم القيامة‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وفيه دليل أن من شرع فى عمل من عمل الطاعات وصحت فيه نيته الله، وحال بينه وبين تمامه الموت؛ فإن الرجاء قوى أن الله قد كتبه فى الآخرة من أهل ذلك العمل وتقبله منه، ويشهد لهذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 100‏]‏ أنه لا يُقطع على أحد بعينه بهذا ولا أنه بمنزلة ذلك الموقوص، ولذلك قال كثير من اهل العلم‏:‏ إن هذا الحديث خاص فى الموقوص، وإن سنة المحرم أنه إذا مات يخمر رأسه ويطيب ويفعل به ما يفعل بالمبيت الحلال، ولا يجنب ما يجتنبه المحرم، هذا قول مالك وأبى حنيفة وأصحابه والأوزاعى، وبذلك أخذ ابن عمر حين توفى ابنه بالجحفة وهو محرم، خمر رأسه ووجهه وقال‏:‏ لولا أنا حُرم لطيَّبْنَاهُ‏.‏

لأنه لم يقطع ابن عمر أن ابنه بمنزلة الموقوص الذى أخبر عليه السلام أنه يبعث يوم القيامة ملبيًا‏.‏

وبهذا قالت عائشة، ولم يأخذوا بحديث الموقوص، وأخذ به الشافعى وقال‏:‏ لا يخمر رأس المحرم ولا يطيب اتباعًا لظاهر حديث ابن عباس‏.‏

وهو قول عثمان وعلى بن أبى طالب وابن عباس‏.‏

واحتج الذين رأوا الحديث خاصا فى الموقوص بعينه أن من مات بعده فى حال الإحرام، لا يعلم هل يُقبل حَجُّه‏؟‏ وهل يبعث يوم القيامة ملبيًا أم لا‏؟‏ ولا يُقطع على غير ذلك إلا بوحى، فافترقا فى المعنى، واحتج مالك كذلك فقال‏:‏ إنما يعمل الرجل ما دام حيا، فإذا مات انقطع عمله‏.‏

قال الأصيلى‏:‏ ثبت الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ ولد يدعو له، أو علم ينتشر عنه، أو صدقة موقوفة بعده‏)‏‏.‏

باب الْحَجِّ وَالنُّذرِ عَنِ الْمَيِّتِ وَالرَّجُلُ يَحُجُّ عَنِ الْمَرْأَةِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ‏:‏ إِنَّ أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ، حُجِّى عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً‏؟‏ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى الرجل يموت وعليه حجة الإسلام أو حجةُ نذرٍ؛ فقالت طائفة‏:‏ يجوز أن يُحج عنه وإن لم يُوصِ بذلك، ويُجزئه‏.‏

روى ذلك عن ابن عباس وأبى هريرة، وهو قول عطاء وابن سيرين ومكحول وسعيد بن المسيب وطاوس، وبه قال الأوزاعى وأبو حنيفة والشافعى وأبو ثور‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يَحج أحد عن أحدٍ، روى ذلك عن ابن عمر والقاسم بن محمد والنخعى‏.‏

وقال مالك والليث‏:‏ لا يَحج أحد عن أحدٍ إلا عن ميت لم يحج الإسلام ولا ينوب عن فرضه‏.‏

فإن أوصى بذلك الميت؛ فعند مالك وأبى حنيفة يُخرج من ثلثه‏.‏

وهو قول النخعى‏.‏

وعند الشافعى يخرج من رأس ماله‏.‏

وحجة أهل المقالة الأولى حديث ابن عباس قالوا‏:‏ ألا ترى أن النبى عليه السلام شبه الحج بالدَّيْن، يجوز أن يقضيه عنه غيرهُ، أوصى بذلك أو لم يُوص؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشترط فى إجازته ذلك، إن كان من أمها لها فذلك أمرها، ولو كان ذلك غير قاض عن أمها لكان عليه السلام قد أعلمها أن ذلك غير جائز، إلا أن تحج عنها بأمرها فلما أعلمها عليه السلام أن ذلك قضاء عنها صح أن ذلك مجزئ عمن حج عنه ممن عجز عن أدائه فى حياته، وسبيل ذلك قضاء دين على رجل أن ذلك براءة للمقضى عنه بأمر الله، كان عليه أو بغير أمره، وتشبيه الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بالدَّيْن يدل أن ذلك عليه من جميع ماله ثلثه كسائر الديون، قاله الطبرى، وذكر ابن المنذر أن عائشة اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعد موته‏.‏

وحجة من منع الحج عن غيره أن الحج عمل الإنسان ببدنه، وقد أجمعوا أنه لا يُصلِّى أحد عن أحدٍ فكذلك الحج‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والدليل على أنه لا يَحجُّ أحد عن أحدٍ قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنت قاضيه‏)‏‏؟‏ إنما سألها‏:‏ هل كنت تفعلين ذلك تطوعًا‏؟‏ لأنه لا يجب عليها أن تقضى دين أمها إذا لم يكن لها تَركَة؛ لأن الحج من عمل الأبدان وهى عبادة لا تصح النيابة مع القدرة ولا مع العجز فى حال الحياة فلم يصح بعد الممات، دليله الصلاة‏.‏

وأما قول البخارى فى الترجمة‏:‏ والرجل يحج عن المرأة‏.‏

وأدخل حديث المرأة التى سألت النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فكان ينبغى أن يقول‏:‏ والمرأة تحج عن المرأة‏.‏

فالجواب عن ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم خاطب المرأة بخطاب دخل فيه الرجال والنساء، وهو قوله‏:‏ ‏(‏اقضوا الله‏)‏، وهذا يصح للمذكر والمؤنث، ولا خلاف فى حج الرجل عن المرأة، والمرأة عن الرجل، إلا الحسن ابن صالح، وسأذكر قوله فى الباب بعد هذا إن شاء الله‏.‏

باب الْحَجِّ عَمَّنْ لا يَسْتَطِيعُ الثُّبُوتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، عن الفضل، قَالَ‏:‏ جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِىَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِى عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ‏)‏‏.‏

وترجم له‏:‏ ‏(‏باب‏:‏ حج المرأة عن الرجل‏)‏‏.‏

واختلف العلماء فى الذى لا يستطيع أن يستوى على الراحلة لكبرٍ أو ضعف أو زمانة، فذكر الطبرى أن رجلا أتى على بن أبى طالب فقال‏:‏ كبرتُ وضعفتُ وفرطت فى الحج‏.‏

فقال‏:‏ إن شئت فجهزت رجلا فحج عنك‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا يلزمه فرض الحج أصلا وإن وجد المال وأمكنه أن يحمل من يحج عنه‏.‏

وقال أبو حنيفة والشافعى‏:‏ هو مستطيع يلزمه أن يحج غيره يؤذى عنه الحج‏.‏

واختلفا فقال الشافعى‏:‏ إذا بذل له ابنه الطاعة وهو غير واجد للمال؛ فإنه يحج عنه ويلزمه فرض الحج‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يلزمه إلا إذا كان وزاجدًا للمال يمكنه أن يحمل غيره يحج عنه‏.‏

واحتج أصحاب أبى حنيفة والشافعى بحديث الخثعمية‏.‏

قال‏:‏ وفى الحديث دليلان على وجوب الحج على المغضوب‏:‏ أحدها‏:‏ أنها قالت‏:‏ ‏(‏إن فريضة الله فى الحج أدركت أبى‏)‏ فأقرها الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولو لم يلزمه وهى قد ادَّعَت وجوبه على أبيها بحضرته لأنكره عليه السلام‏.‏

والثانى‏:‏ أنه شبهه بالدَّيْن فى رواية عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار ‏(‏أن النبى عليه السلام حين أمر أن يحج عن الشيخ الكبير، قيل‏:‏ أوَ ينفعه ذلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم، كما يكون على أحدكم الدَّيْن فيقضيه‏)‏‏.‏

ولهذا‏:‏ الدَّيْنُ الذى يُقضى عن الإنسان يكون واجبًا عليه، ومن قضاه أسقط الفرض والمأَثم، فكذلك يجب أن يكون الحج، مَنْ قضاه أسقط الفرض والمأثم جميعًا لقولها‏:‏ ‏(‏فهل يقضى عنه أن أحج عنه‏؟‏‏)‏ وروى عبد الرزاق‏:‏ ‏(‏أيفعه أن أحج عنه‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏)‏‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ولا دلالة لهم فيه؛ لأنها قالت‏:‏ ‏(‏إن فريضة الله على عباده فى الحج أدركت أبى‏)‏ ولم تقل‏:‏ فرضت على أبى، وإنما قالت‏:‏ إنها نزلت وأبى شيخ‏.‏

أى‏:‏ فرضت فى وقتٍ أبى كبير لا يلزمه فرضها، فلم ينكر عليه السلام قولها، وقد يمكن أنها وهمت أن الذى فرض على العباد يجوز أن يدخل فيه أبوها غير أنه لا يقدر على الأداء‏.‏

ولا يمتنع أن يتعلق الوجوب بشرطية القدرة على الداء، فيكون الفرض وجب على أبيها ثم وقت الداء كان عاجزًا؛ لأن الإنسان لو كان واجدًا للراحلة والزاد، وكان قادرًا ببدنه؛ لم يمتنع أن يقال له فى الحرم‏:‏ قد فرض عليك الحج، فإن بقيت على ما أنت عليه إلى وقت الحج لزمك الداء وإلا سقط عنك‏.‏

ونحن نعلم أنه فرض تراخى عن وقت الحج المضيق، وإنما سألته فى وقت الداء عن ذلك، وقولها‏:‏ ‏(‏أفأحج عنه‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏)‏ لا يدل على أن الأداء كان مقدرًا عليه فسقط بفعلها، ولكنه أراد عليه السلام أنها إن فعلت ذلك لحقه ثواب ما ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ من دعائها فى الحج، كما لو تطوعت بقضاء دينه، لا أنه مثل الدين فى الحقيقة؛ لأن الدين حق لآدمى يسقط بالإبراء ويؤدى عنه مع القدرة والعجز بأمره مع الصحة وغير أمره، ولو كان كالدين كان إذا حجت عنه ثم قوى وصح سقط عنه، كما يقضى دين المعسر‏.‏

وفى حديث الخثعمية جواز حج المرأة عن الرجل، وأجازه جماعة الفقهاء إلا الحسن بن صالح؛ فإنه قال‏:‏ لا يجوز‏.‏

واعتل بأن المرأة تلبس الثياب فى الإحرام والرجل لا يلبسها‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وهذه غفلة وخروج عن ظاهر السنة؛ لأن النبى عليه السلام أمر المرأة أن تحج عن أبيها، وعلى هذا يعتمد من أجاز الحج عن غيره‏.‏

واختلفوا فى المريض يأمر من يحج عنه، ثم يصح بعد ذلك وتعذّر؛ فقال الكوفيون والشافعى وأبو ثور‏:‏ لا يجزئه، وعليه أن يحج‏.‏

وقال أحمد وإسحاق‏:‏ يجزئه الحج عنه‏.‏

وكذلك إن مات من مرضه وقد حُج عنه، فقال الكوفيون وأبو ثور‏:‏ يجزئه من حجة الإسلام‏.‏

وقال الشافعى فيها قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ هذا‏.‏

والثانى‏:‏ لا يجزئ عنه‏.‏

وهو أصح القولين‏.‏

باب حَجِّ الصِّبْيَان

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، بَعَثَنِى الرسول صلى الله عليه وسلم، فِى الثَّقَلِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَقْبَلْتُ، وَقَدْ نَاهَزْتُ الْحُلُمَ، أَسِيرُ عَلَى أَتَانٍ لِى، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّى بِمِنًى، حَتَّى سِرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ نَزَلْتُ عَنْهَا فَرَتَعَتْ، فَصَفَفْتُ مَعَ النَّاسِ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِمِنًى فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ‏.‏

- وفيه‏:‏ السَّائِب، حُجَّ بِى مَعَ النَّبِىّ عليه السَّلام وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ‏.‏

اتفق أئمة الفتوى على سقوط فرض الحج عن الصبى حتى يبلغ؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏رفع القلم عن الصبى حتى يبلغ‏)‏ إلا أنه إذا حُجَّ به كان له تطوعًا عند مالك والشافعى وجماعة من العلماء وعلى هذا المعنى حمل العلماء أحاديث هذا الباب‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يصح إحرامه ولا يلزمه شىء إن فعل من محظورات الإحرام، وإنما يُفعل به ذلك، ويجنب محظوراته على وجه التعليم له والتمرين عليه، كما قالوا فى صلاته أنها لا تكون صلاة أصلا، وشذ من لا يُعد خلافه فقال‏:‏ إذا حَج الصبى قبل بلوغه أجزأه ذلك عن حجة افسلام ولم يكن عليه أن يحج بعد بلوغه، واحتج بحديث ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن امرأة سألت النبى عليه السلام عن صبى‏:‏ هل لهذا حج‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ولك أجر‏)‏ ذكره الطحاوى‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والحجة على أبى حنيفة فى نفيه عنه حج التطوع ما رواه ابن عباس من قول المرأة‏:‏ ‏(‏ألهذا حج يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ولك أجر‏)‏ فأضاف الحج الشرعى إليه فوجب أن يتعلق به أحكامه، وأكد هذا بقوله‏:‏ ‏(‏ولك أجر‏)‏ أخبر أنها تستحق الثواب عن إحجابه، وهذا مذهب ابن عباس وابن عمر وعائشة‏.‏

وقد روى عن ابن عباس أنه قال لرجل حج بابنٍ صبىٍّ له أصاب حمامًا فى الحرم‏:‏ اذْبَحْ عن ابنك شاة‏.‏

وأجمع العلماء أن جنايات الصبيان لازمة لهم فى أموالهم، قال الطحاوى‏:‏ وتاويل الحديث عندنا أن النبى عليه السلام أوجب للصبى حجا وهذا مما قد أجمع الناس عليه، ولم يختلفوا أن للصبى حجا كما أن له صلاة، وليست تلك الصلاة بفريضة عليه، فكذلك يجوز أن يكون حجات ولا يكون فريضة عليه، وإنما هذا الحديث حجة على من زعم أنه لا حج للصبى، وأما من يقول أن له حجا وأنه غير فريضة فلم يخالف الحديث، وإنما خالف تأويل مخالفه خاصة‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ جعل له صلى الله عليه وسلم حجا مضافًا كما يضاف إليه القيام والقعود والأكل والشرب، وإن لم يكن ذلك من فعله على الوجه الذى يفعله أهل التمييز باختيار‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ هذا ابن عباس وهو راوى الحديث قد صرف حج الصبى إلى غير الفريضة، حدثنا ابن خزيمة، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن أبى السفر قال‏:‏ سمعت ابن عباس يقول‏:‏ يا أيها الناس، أسمعونى ما تقولون، ولا تخرجوا تقولوا‏:‏ قال ابن عباس، أيما غلام حَج به أهلُه فمات فقد قضى حجة الإسلام، فإن عُتق فعليه الحج‏.‏

وقد أجمعوا أن صبيا لو دخل وقت صلاة فصلاها، ثم بلغ بعد ذلك فى وقتها أن عليه أن يعيدها، فكذلك الحج، وذكر الطبرى‏:‏ أن هذا تأويل سلف الأمة، وروى أن أبا بكر الصديق حج بابن الزبير فى ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏، وقال عمر‏:‏ أحجوا هذه الذرية‏.‏

فكان ابن عمر يجرد صبيانه عند الإحرام ويقف بهم المواقيف وكانت عائشة تفعل ذلك وفعله عروة بن الزبير، قال عطاء‏:‏ يجرد الصغير ويلبى عنه، ويجنب ما يجنب الكبير ويقضى عنه كل شىء إلا الصلاة، فإن عقل الصلاة صلاها، فإذا بلغ وجب عليه الحج‏.‏

واختلفوا فى الصبى والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم الصبى ويُعتق العبد قبل الوقوف بعرفة؛ فقال مالك‏:‏ لا سبيل إلى رفض الإحرام ويتماديان عليه ولا يجزئهما عن حجة الإسلام‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إذا نويا بإحرامهما المتقدم حجة الإسلام أجزأ عنهما‏.‏

وعند مالك‏:‏ أنهما لو استأنفا الإحرام قبل الوقوف بعرفة أنه لا يجزئهما من حجة الإسلام‏.‏

وهو قول أبى حنيفة؛ لأنه يصح عنده رفض الإحرام‏.‏

وحجة مالك أن الله تعالى أمر كل من دخل فى حج أو عمرة بإتمامه تطوعًا كان أو فرضًا؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ومن رفض إحرامه فلم يتم حجه ولا عمرته‏.‏

وحجة الشافعى فى إسقاط تجديد النية أنه جائز عنده لكل من نوى بإهلاله أن يصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه المهلين بالحج أن يفسخوه فى عمرة، فدل أن النية فى الإحرام ليست كالنية فى الصلاة، وحجة أبى حنيفة‏:‏ أن الحج الذى كان فيه لما لم يكن يجزئ عنده ولم يكن الفرض لازمًا له فى حين إحرامه، ثم لما لزمه حين بلغ، استحال أن يشتغل عن فرض قد تعين عليه بنافلة ويعطل فرضه، كمن دخل فى نافلة، فأقيمت عليه مكتوبة وخشى فوتها قطع النافلة ودخل فى المكتوبة وأحرم لها، فكذلك الحج يلزمه أن يجدد له الإحرام؛ لأنه لم يكن للفريضة‏.‏

باب حَجِّ النِّسَاءِ

وَأَذِنَ عُمَرُ لأزْوَاجِ النَّبِىِّ عليه السَّلام فِى آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، فَبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَعَبْدَالرَّحْمَنِ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةُ قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَغْزُو وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَكِنَّ أَحْسَنَ الْجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ الْحَجُّ، حَجٌّ مَبْرُورٌ‏)‏، فَقَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ فَلا أَدَعُ الْحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ النَّبِىّ، عليه السَّلام صلى الله عليه وسلم‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏لا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلا مَعَ ذِى مَحْرَمٍ، وَلا يَدْخُلُ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ‏)‏، فَقَالَ‏:‏ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِى جَيْشِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِى تُرِيدُ الْحَجَّ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اخْرُجْ مَعَهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، لَمَّا رَجَعَ الرسول صلى الله عليه وسلم مِنْ حَجَّتِهِ، قَالَ لأمِّ سِنَانٍ‏:‏ مَا مَنَعَكِ مِنَ الْحَجِّ‏.‏‏.‏‏.‏‏؟‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لكنَّ أفضل الجهاد حج مبرور‏)‏ يبطل إفك المتشيعين وكذب الرافضيين فيما اختلقوه من الكذب على النبى عليه السلام أنه قال لأزواجه فى حجة الوداع‏:‏ ‏(‏هذه، ثم ظهور الحصر‏)‏‏.‏

وهذا ظاهر الاختلاق؛ لأنه عليه السلام حَضَّهُنَّ على الحج وبَشَّرَهُنَّ أنه أفضل جهادهن، وأذن عمر لهن فى الحج، ومسير عثمان وغيره من أئمة الهدى معهن حجة قاطعة على الإجماع على ما كُذِبَ به على النبى عليه السلام فى أمر عائشة والتسبب إلى عرضها المطهر، وكذلك قولهم‏:‏ ‏(‏فتقاتلى عليا وأنت له ظالمة‏؟‏‏)‏ إفك وباطل لا يصح، وأما سفرها إلى مكة مع غير ذى محرم منها من النسب؛ فالمسلمون كلهم أبناؤها وذوو محارمها بكتاب الله تعالى كيف وإنها كانت تخرج فى رفقة مأمونة وخدمة كافية‏؟‏ هذه الحال ترفع تحريج الرسول صلى الله عليه وسلم عن النساء المسافرات بغير ذى محرم، كذلك قال مالك والأوزاعى والشافعى‏:‏ تخرج المرأة فى حجة الفريضة مع جماعة النساء فى رفقة مأمونة وإن لم يكن معها محرم، وجمهور العلماء على جواز ذلك، وكان ابن عمر يحج معه نسوة من جيرانه، وهو قول عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن البصرى، وقال الحسن‏:‏ المسلم محرم، ولعل بعض من ليس بمحرمٍ أوثق من المحرم‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ لا تحج المرأة إلا مع ذى محرم‏.‏

وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور، حملوا نهيه على العموم فى كل سفر، وحمله مالك وجمهور الفقهاء على الخصوص، وأن المراد بالنهى الأسفار غير الواجبة عليها بعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ فدخلت المرأة فى عموم هذا الخطاب ولزمها فرض الحج، ولا يجوز أن تُمنع المرأة من الفروض كما لا تمنع من الصلاة والصيام؛ ألا ترى أن عليها أن تهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام إذا أسلمت فيه بعير محرم، وكذلك كل واجبٍ عليها أن تخرج فيه، فثبت بهذا أن نهيه عليه السلام أن تسافر المرأة مع غير ذى محرم أنه أراد بذلك سفرًا غير واجب عليها، والله أعلم‏.‏

واتفق الفقهاء أَن لْيسَ للرجل منع زوجته حجة الفريضة، تخرج للحج بغير إذنه، وللشافعى قول أنها لا تخرج إلا بإذنه، وأصح قوليه ما وافق فيه سائر العلماء، وقد أجمعوا أنه لا يمنعها من صلاة ولا من صيام، فكذلك الحج‏.‏

وسيأتى فى كتاب الجهاد فى باب‏:‏ من اكتتب فى جيش فخرجت امرأته حاجَّة، أن معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ارجع فاحجج مع امرأتك‏)‏ أنه محمول على الندب لا على الوجوب‏.‏

باب مَنْ نَذَرَ الْمَشْىَ إِلَى الْكَعْبَةِ

- فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا بَالُ هَذَا‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عُقْبَةَ، قَالَ‏:‏ نَذَرَتْ أُخْتِى أَنْ تَمْشِىَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَأَمَرَتْنِى أَنْ أَسْتَفْتِىَ لَهَا الرسول صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ‏)‏‏.‏

أخذ أهل الظاهر بحديث أنس وعقبة بن عامر وقالوا‏:‏ من عجز عن المشى فلا هدى عليه اتباعًا للسنة فى ذلك، قالوا‏:‏ ولا يثبت شىء فى الذمة إلا بيقين، وليس المشى مما يوجب نذرًا؛ لأن فيه تعب الأبدان، وليس الماشى فى حال مشيه فى حرمة إحرام، فلم يجب عليه المشى ولا بدل منه‏.‏

وأما سائر الفقهاء فإن لهم فى هذه المسألة ثلاثة أقوال غير هذه‏:‏ الأول‏:‏ روى عن على بن أبى طالب وابن عمر أن من نذر المشى إلى بيت الله فعجز، أنه يمشى ما استطاع، فإذا عجز ركب وأهدى‏.‏

وهو قول عطاء والحسن، وبه قال أبو حنيفة والشافعى، إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا‏:‏ وكذلك إن ركب وهو غير عاجز، قالوا‏:‏ ويكفر يمينه لحنثه كما حكاه الطحاوى عنه، وقال الشافعى‏:‏ الهدى فى هذه المسألة احتياط من قِبَل أنه من لم يُطِقْ شيئًا سقط عنه، وحجتهم ما رواه همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عقبة ابن عامر ‏(‏أن أخته نذرت المشى إلى بيت الله، فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال‏:‏ إن الله لغنى عن نذر أختك، فلتركب ولتُهد‏)‏‏.‏

والقول الثانى‏:‏ يعود ثم يحج مرة أخرى، ثم يمشى مَا ركبَ ولا هَدْى عليه، هذا قول ابن عمر، ذكره مالك فى ‏(‏الموطأ‏)‏، وروى عن ابن عباس وابن الزبير والنخعى وسعيد بن جبير‏.‏

والقول الثالث‏:‏ يعود فيمشى ما ركب وعليه الهدى، روى عن ابن عباس أيضًا، وروى عن سعيد بن المسيب والنخعى، وهو قول مالك، جمع عليه الأمرين‏:‏ المشى والهدى؛ احتياطًا لموضع تفريقه المشى الذى كان يلزمه فى سفر واحد، فجعله فى سفرين قياسًا على التمتع والقران، والله أعلم‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ويمكن أن يُتأولَ حديثُ أنسٍ وعُقبةَ بوجهٍ موافقٍ لفقهاء الأمصار، حتى لا ينفرد أهل الظاهر بالقول بهما وذلك أن فى نصهما ما يبيِّن المعنى فيهما، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى شيخًا يهادى بين ابنيه فقال‏:‏ ‏(‏إن الله لغنى عن تعذيب هذا نفسه‏)‏ فبان واتضح أنه كان غير قادر على المشى، وممن لا ترجى له القدرة عليه، ومن كان غير قادر على شىء سقط عنه‏.‏

والعلماء متفقون أن الوفاء بالنذر إنما يكون فيما هو لله طاعة، والوفاء به بِر، ولا طاعة ولا بِرَّ فى تعذيب أحدٍ نفسهَ، فكأن هذا الناذر على نفسه ما لا يقدر على الوفاء به، وكان فى معنى أبى إسرائيل الذى نذر ليقومن فى الشمس ولا يستظل ويصوم ذلك اليوم فأمره عليه السلام بكفارة وقد روى فى حديث عقبة بن عامر ما يدل أن أخته كانت غير قادرة على المشى، فلذلك لم يأمرها عليها السلام بالهَدْى‏.‏

روى الطبرى قال‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا الفضيل بن سليمان، حدثنا محمد بن أبى يحيى الأسلمى، حدثنا إسحاق بن سالم، عن عقبة بن عامر ‏(‏أن أخته نذرت أن تمشى إلى الكعبة، وهى امرأة ثقيلة، والمشى يشق عليها، فذكر ذلك عقبة للنبى عليه السلام فقال‏:‏ إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، مُرها فلتركب‏)‏ فصح التأويل أنها نذرت وهى فى حال من لا يُرجى له القدرة على الوفاء بما نذرت كأبى إسرائيل، والعلماء مجمعون على سقوط المشى على من لا يقدر عليه، فسقوط الهَدْى أَحْرَى، وإن كان مالك يستحب الهدى لمن عجز عن المشى‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ونظرنا فى قول من قال‏:‏ ليس الماشى فى حرمة إحرام فرأينا الحج فيه الطواف بالبيت والوقوف بعرفة وجمع، وكان الطواف منه ما يفعله الرجل فى حال إحرامه وهو طواف الزيارة، ومنه ما يفعله بعد أن يحل من إحرامه، وهو طواف الصَّدْر، فكان ذلك من أسباب الحج قد أريد أن يفعله الرجل ماشيًا، وكان إن فعله راكبًا مقصرًا وجعل عليه الدم، هذا إذا فعله من غير علة، وإن فعله من علة فالناس مختلفون فى ذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد‏:‏ لا شىء عليه‏.‏

وقال غيرهم‏:‏ عليه دم‏.‏

وهو النظر عندنا؛ لأن العلل إنما تُسقط الآثام فى انتهاك المحرمات ولا تُسقط الكفارات، فحلق الرأس فى الإحرام إن حلقه من غير عذر عليه الإثم والكفارة، فإن اضطر إلى حلقه فعليه الكفارة ولا إثم عليه، فكذلك المشى الذى قبل الإحرام لما كان من أسباب الإحرام، كان حكمه حكم المشى الواجب فى الإحرام يجب على تاركه الدم‏.‏

باب ما جاء فِى حَرَمِ الْمَدِينَةِ

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا، لا يُقْطَعُ شَجَرُهَا، وَلا يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَدِمَ النَّبِىُّ عليه السَّلام الْمَدِينَةَ، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا بَنِى النَّجَّارِ ثَامِنُونِي‏)‏، فَقَالُوا‏:‏ لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ، فَأَمَرَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حُرِّمَ مَا بَيْنَ لابَتَىِ الْمَدِينَةِ عَلَى لِسَانِي، وَأَتَى الرسول صلى الله عليه وسلم بَنِى حَارِثَةَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَرَاكُمْ يَا بَنِى حَارِثَةَ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ الْحَرَمِ‏)‏، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏بَلْ أَنْتُمْ فِيهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَلِىٍّ رضي الله عنه، قَالَ‏:‏ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إِلا كِتَابُ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث‏.‏

حَرَّمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ إلى الحدود المشار إليها، و ‏(‏عائر‏)‏ جبل بقرب المدينة، ويروى‏:‏ ‏(‏عير‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إلى كذا‏)‏ وقع فى بعض الأمهات وفى بعض الكتب من رواية ابن السكن ‏(‏ما بين عير إلى ثور‏)‏ وثور جبل معروف أيضًا‏.‏

قال أبو عبيد والطبرى‏:‏ وقد أنكر قوم من أهل المدينة أن يكون بها جبل يسمى ثورًا، وقال‏:‏ إنما ثور بمكة‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ فنرى الحديث إنما أصله ‏(‏ما بين عير إلى أحد‏)‏ وكذلك حَرَّمَ ما بين لابتى المدينة، واللابة‏:‏ الحرة، وهو الموضع ذو الحجارة السود‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وجمعها لاب ولوب‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ وتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم لابتى المدينة إنما ذلك فى الصيد، فأما قطع الشجر فبريد فى بريد فى دور المدينة كلها، كذلك أخبرنى مطرف عن مالك، وهو قول عمر بن عبد العزيز، واللابتان هما‏:‏ الحرتان الغربية والشرقية، وللمدينة حرتان أيضًا‏:‏ حرة فى القبلة وحرة فى الجوف وترجع كلها إلى الحرتين؛ لأن القبلة والجوفية متصلان بهما، ولذلك حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتى المدينة، جمع دورها كلها فى اللابتين، وقد ردها حسان بن ثابت إلى حرة واحدة فقال‏:‏ لنا حرة مأطورة بجبالها بنى العز فيها بيته فتأثلا وقوله‏:‏ مأطورة يعنى‏:‏ مقطوعة بجبالها لاستدارتها، وإنما جبالها الحجارة السود التى تسمى‏:‏ الجرار‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما أدخل حديث أنس فى بناء المسجد فى هذا الباب بعد قوله‏:‏ ‏(‏لا يقطع شجرها‏)‏ ليعرفك أن قطع النخل ونبش قبور المشركين ليس هو القطع الذى نهى عنه فى تحريم المدينة؛ لأن قطع النخيل كان لتبوئ المسلمين مسجدًا‏.‏

ففى هذا من الفقه أن من أراد أن يتخذ جنانًا فى حرم ليعمرها، ويغرس فيها النخل، ويزرع فيها الحبوب، أنه لا يتوجه إليه النهى عن قطع شجرها، ولا يمنع من قطع ما فيه من شجر الشعر أو شوكها؛ لأنه يبتغى الصالح والتأسيس للسكنى فى موضع العمارة، فهذا يبين وجه النهى أنه موقوف على المفسد لبهجة المدينة وخضرتها لعين المهاجر إليها حتى تبتهج نفسه لنضرتها ويرتاح بمبانيها، وإن كان ابتهاجه بمسجدها بيت الله تعالى ومنزل ملائكته ومحل وحيه أعظم والسرور به أشد‏.‏

وقيل‏:‏ قطعه عليه السلام للنخيل من موضع المسجد يدل أن النهى إنما يتوجه إلى ما اثبته الله من المسجد مما لا صنع فيه لآدمى؛ لأن النخيل التى قطعت من موضع المسجد كانت من غرس الآدميين؛ لأنه طلب شراء الحائط من بنى النجار إذ كان ملكًا لهم، فقالوا‏:‏ لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، وعلى هذا التأويل حمل نهيه عليه السلام عن قطع شجر مكة‏.‏

واتفق مالك والشافعى وأحمد وجمهور الفقهاء على أن الصيد محرم فى حرم المدينة‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ صيد المدينة غير محرم، كذلك قطع شجرها، فخالف آثار هذا الباب، واحتج الطحاوى بحديث أنس ‏(‏أن النبى عليه السلام دخل داره وكان لأنس أخ صغير، وكان لهم نغير يلعب به، فقال له النبى عليه السلام‏:‏ ‏(‏يا أبا عمير، ما فعل النغير‏؟‏‏)‏ وهذا لا حجة فيه؛ لأنه يمكن أن يصطاد ذلك النغر من غير حرم المدينة‏.‏

وحجة الجماعة‏:‏ أن الصحابة فهمت من الرسول صلى الله عليه وسلم تحريم الصيد فى حرم المدينة؛ لأنهم أَمروا بذلك وأفتوا به، وهم القدوة الذين يجب اتباعهم‏.‏

وروى عن أبى سعيد الخدرى أنه كان يضرب بنيه إذا اصطادوا فيه ويرسل الصيد‏.‏

وروى عن سعد بن أبى وقاص‏:‏ أنه أخذ سلب من صاد فى حرم المدينة وقطع شجرها، ورواه عن النبى عليه السلام إلا أن أئمة الفتوى لم يقولوا بأخذ سلبه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏حُرم ما بين لابتى المدينة على لسانى‏)‏ يريد أن تحريمها كان من طريق الوحى، فوجب تحريم صيدها وقطع شجرها، إلا أن جمهور العلماء على أنه لا جزاء فى حرم المدينة، لكنه آثم عندهم من استحل حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قال الكوفيون‏:‏ لما أجمعوا على سقوط الجزاء فى حرم المدينة دل أنه غير محرم‏.‏

قيل‏:‏ لا حجة فى هذا؛ لأن صيد مكة قد كان محرمًا على غير أمة محمد، ولم يكن عليهم فيه جزاء وإنما الجزاء فيه على أمة محمد، فليس إيجاب الجزاء فيه علة للتحريم، وشذ ابن أبى ذئب، ونافع صاحب مالك، والشافعى فى أحد قوليه فأوجبوا فيه الجزاء‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والدليل على سقوط الجزاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حرم المدينة وذكر ما ذكر لم يذكر جزاءً على من قتل الصيد بها، وما كان من جهته عليه السلام لم يكن تبيان لما فى القرآن فليس محرم تحريم القرآن، وإنما هو مكروه حتى يكونَ بَيْنَ تحريمه وتحريم القرآن فرق‏.‏

فإن احتجوا بحديث سعد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من وجدتموه يصيد فى حرم المدينة ويقطع شجرها؛ فخذوا سلبه‏)‏ فلم يصح عند مالك ولا رأى العمل عليه بالمدينة، ولو صح الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأوجب الجزاء على من لا سلب له، ولو لم يكن على القاتل إلا ما ستر به عورته لم يجز أخذه وكشف عورته، فثبت أن الصيد ليس بمضمون أصلا‏.‏

ألا ترى أن صيد مكة لما كان مضمونًا لم يفترق حكم الغنى والفقير ومن له سلب ومن لا سلب له فى أنه مضمون عليه فى أى وقت قدر‏.‏

وقد قال مالك‏:‏ لم أسمع أن فى صيد المدينة جزاءً، ومن مضى أعلم ممن بقى، فقيل له‏:‏ فهل يؤكل‏؟‏ فقال‏:‏ ليس كالذى يصاد بمكة وإنى لأكرهه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث أنس وعلى من الفقه لعنة أهل المعاصى والعناد لأوامر النبى عليه السلام‏.‏

وفيه‏:‏ أن المحدث فى حرم المدينة والمؤوى للمحدث فى الإثم سواء‏.‏

وقول بنى النجار‏:‏ ‏(‏لا نطلب ثمنه إلا من الله‏)‏ فيه من الفقه إثبات الأحباس المراد بها وجه الله؛ لأنهم وهبوا البقعة للمسلمين حبسًا موقوفًا عليهم، فطلبوا الأجر على ذلك من الله‏.‏

وفى حديث أبى هريرة من الفقه أن للعالم أن يقول على غلبة الظن، ثم ينظر فيصح النظر، ويقول بعد ذلك، كما قال عليه السلام لبنى حارثة‏.‏

وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا‏)‏ قال أبو عبيد‏:‏ الحدث‏:‏ كُلُّ حَدٍّ لله يجب على صاحبه أن يقام عليه، وهذا شبيه بحديثٍ فى الرجل يأتى حدا من الحدود، ثم يلجأ إلى الحرم أنه لا يقام عليه الحد، ولكنه لا يجالس ولا يكلم حتى يَخرج منه؛ فإذا خرج منه أُقيم عليه الحَدُّ، فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم حرمة المدينة كحرمة مكة فى المأثم فى صاحب الحّدِّ ألا يؤذيه أحد حتى يخرج منه فيقام عليه الحد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا يقبل منه صرف ولا عدل‏)‏ هذا يمكن أن يكون فى وقت دون وقت، إن أنفذ الله عليه الوعيد، ليس أن هذه حاله عند الله أبدًا؛ لأن الذنوب لا تُخرج من الديانة ولا يُخْرِج منها غير الكفر وحده‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أخفر مسلمًا‏)‏ قال الخليل‏:‏ يقال‏:‏ أخفرت الرجل‏:‏ إذا لم تف بذمته، والاسم‏:‏ الخفور‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏صرف ولا عدل‏)‏ قال أبو عبيد عن مكحول‏:‏ الصرف‏:‏ التوبة، والعدل‏:‏ الفدية‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وفى القرآن ما يصدق هذا التفسير وهو قوله‏:‏ ‏(‏وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 70‏]‏ وأما الصرف فلا أدرى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلاَ نَصْرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 19‏]‏ من هذا أم لا‏؟‏ وبعض الناس يحمله على هذا، ويقال‏:‏ إن الصرف النافلة، والعدل الفريضة‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ والتفسير الول أشبه بالمعنى‏.‏

وقال أبو على البغدادى‏:‏ الصرف الحيلة، والصرف الاكتساب، والعدل الفدية، والعدل الدية، صحيح فى الاشتقاق‏.‏

فأما من قال‏:‏ الصرف الفريضة، والعدل النافلة، والصرف الدية، والعدل الزيادة على الدية؛ فغير صحيح فى الاشتقاق‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ الصرف مصدر من قولك‏:‏ صرفت نفسى عن الشىء أصرفها صرفًا‏.‏

وإنما عنى به فى هذا الموضع صرف راكب الذنب وهو المحدث فى الحرم حدثًا من سفك دم أو استحلال محرم فلا تقبل توبته، والعدل‏:‏ ما يعدله من الفدية والبدل، وكل ما عادل الشىء من غير جنسه وكا له مثلا من وجه الجزاء لا من وجه المشابهة فى الصورة والخلقة، فهو له عَدل، بفتح العين، ومنه قوله‏:‏ ‏(‏وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 70‏]‏ بمعنى وإن تفد منها كل فدية‏.‏

وأما العِدل بكسر العين، فهو مثل الحِمل المحمول على الظهر، يقال‏:‏ عندى غلام عِدل غلامك، وشاة عِدل شاتك، بكسر العين، إذا كان غلامًا يعدل غلامًا وشاة تعدل شاة، وذلك فى كل مثل للشىء من جنسه، فإذا أراد أن عنده قيمته من غير جنسه فتحت العين فيقول‏:‏ عندى شاتك من الدراهم‏.‏

وقد ذكر عن بعض العرب أنهم يكسرون العين من العدل الذى هو بمعنى الفدية، وذلك لتقارب معنى العدل عندهم‏.‏

باب فَضْلِ الْمَدِينَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى، يَقُولُونَ يَثْرِبُ، وَهِىَ الْمَدِينَةُ، تَنْفِى النَّاسَ كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أُمرت بقرية‏)‏ يريد أمرت بالهجرة إليها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏تأكل القُرى‏)‏ يعنى‏:‏ بيفتتح أهلها القرى فيأكلون أموالهم، ويسبون ذراريهم، ويقتلون مقاتلتهم، وهذا من فصيح كلام العرب تقول‏:‏ أكلنا بنى فلان، وأكلنا بلد كذا‏:‏ إذا ظهروا على أهله وغلبوهم‏.‏

قال الخطابى‏:‏ ‏(‏تاكل القرى‏)‏ يريد أن الله ينصر الإسلام بأهل المدينة وهم النصار، وتفتح على أيديهم القرى، ويغنمها إياهم فيأكلونها، وهذا فى الاتساع والاختصار كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ يريد أهل القرية، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عرض نفسه على قبائل العرب أيهم ينصره فيفوز بالفخر فى الدنيا والثواب فى الآخرة، فلم يجد فى القوم من يرضى بمعاداة من جاوره ويبذل نفسه وماله لله، فمثل الله المدينة فى منامه فرأى أنه يؤمر بالهجرة إليها، فوصف ذلك أبى بكر، وقد كان عاقد قومًا من أهلها، وسألوه أن ينظر فيما يريدون أن يعقدوا معه عليه السلام، فخرج مع أبى بكر للمدينة، ففتح الله منها جميع الأمصار حتى مكة التى كانت موطنه‏.‏

قال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ وهذا الحديث حجة لمن فضل المدينة على مكة؛ لأنها هى التى أدخلت مكة وسائر القرى فى الإسلام، فصارت القرى ومكة فى صحائف أهل المدينة‏.‏

وذهب مالك وأهل المدينة إلى أنها أفضل من مكة‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ مكة أفضل منها‏.‏

وقد تقدم القول فى ذلك فى كتاب الصلاة فى قوله‏:‏ صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يقولون‏:‏ يثرب‏)‏ كره أن يسمى باسمها فى الجاهلية وسماها ‏(‏المدينة‏)‏ فلا تسمى بغير ما سماها النبى عليه السلام وكانوا يسمونها ‏(‏يثرب‏)‏ باسم أرض بها فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها وسماها ‏(‏طيبة‏)‏ كراهية التثريب، وإنما سميت فى القرآن ‏(‏يثرب‏)‏ على وجه الحكاية لتسمية المشركين، وقد روى عنه عليه السلام أنه ‏(‏من قال‏:‏ يثرب فكفارته أن يقول المدينة عشر مرات‏)‏ يريد بذلك التوكيد أن يقال لها‏:‏ المدينة، وصارت مُعرفة بالألف واللام؛ لأنها انفردت بجميع خصال الإسلام، ولا يقول أحد‏:‏ المدينة لبلد فيعرف ما يريد القائل إلا لها خاصة‏.‏

باب الْمَدِينَةُ طيبة

- فيه‏:‏ أَبُو حُمَيْدٍ، أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِىِّ عليه السَّلام مِنْ تَبُوكَ حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَذِهِ طَابَةٌ‏)‏‏.‏

قوقه‏:‏ ‏(‏طابة‏)‏ مشتقة من الطيب، وزنها فعلة، وقد يقال أيضًا‏:‏ طيبة، وزنها فعلة، وهذان المثالان فعلة وفعلة متعاقبان على معنى واحد، كقولهم‏:‏ عيب وعاب، وديم ودام، ودين ودان، فاشتق لها عليه السلام هذا الاسم من الطيب، وكره اسمها لما فى لفظه من التثريب، وقد قال بعض أهل العراق‏:‏ وأمر المدينة فى ترابها وهوائها دليل شاهد وبرهان على قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنها طيبة‏)‏ يبقى حبها وينصع طيبها؛ لأن من دخلها وأقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طية ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ اسم فى الأرائج وبذلك السبب طاب طينها، والمعجونات من الطيب فيها أحدّ رائحة، وكذلك العود وجميع البخور يتضاعف طيبه فى تلك البلدة على كل بلدة استعمل ذلك الطيب بعينه فيها‏.‏

باب لابَتَىِ الْمَدِينَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ بِالْمَدِينَةِ تَرْتَعُ مَا ذَعَرْتُهَا، قَالَ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا حَرَامٌ‏)‏‏.‏

قد تقدم أن اللابتين الحرتان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ما ذعرتها‏)‏ فالإذعار والتنفير هو أقل ما ينهى عنه من أمر الصيد وما فوقه من الأذى للصيد وقتله أكثر من الإذعار، وإنما أخذ أبو هريرة قوله‏:‏ ‏(‏ما ذعرتها‏)‏ والله أعلم من قوله عليه السلام فى مكة‏:‏ ‏(‏لا ينفر صيدها‏)‏ والتنفير والإذعار واحد‏.‏

باب مَنْ رَغِبَ عَنِ الْمَدِينَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، سَمِعْتُ الرسول صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏يَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ لا يَغْشَاهَا إِلا الْعَوَافِ، يُرِيدُ عَوَافِىَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ، وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ، يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ سُفْيَانَ بْنِ أَبِى زُهَيْرٍ، سَمِعْتُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏تُفْتَحُ الْيَمَنُ، فَيَأْتِى قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِهِمْ، وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الشَّأْمُ، وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ كذلك‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏تترك المدينة على خير ما كانت‏)‏ يريد على أرخى أحوالها ووجود ثمارها وخيراتها فيأكلها الطير والسباع‏.‏

قال غيره‏:‏ وفى هذا برهان من النبى عليه السلام لأنه ذكر أهلُ الأخبار أنه قد رحل عن المدينة أكثر الناس فى الفتن التى تعاورتها، وخاف أهلها على أنفسهم، وكانت فى عهد الخلفاء أحسن ما كانت من البنيان والعمارة والغرس للنخيل والأشجار، فتركت للطير والسباع، وبقيت مدة على ذلك ثم عاد الناس إليها‏.‏

وروى عن مالك فى هذا الحديث ‏(‏لتتركن المدينة خير ما كانت حتى يدخل الكلب، أو الذئب، فيعوى على بعض سوارى المسجد‏)‏ وأكثر المدينة اليوم خراب لا يدخلها أحد منفردًا فيأمن، وهذا مما يلى القبلة والجوف، وليس لأبوابها ثقاف ولا غلق، وكذلك أبواب المسجد أكثرها لا تغلق وهى كبيرة‏.‏

وقد رأى كثير من الناس الكلب يعوى على بعض سوارى المسجد كما قال صلى الله عليه وسلم، وأما كونه فيما يستقبل فلا شك فيه بما قد أنذر به أمته من عموم الفتن واشتدادها، وانتقاض الخير، وغلبة الباطل وأهله، وأن الإسلام سيعود غريبًا كما بدأ غريبًا، وظهور الشرائط وتواتر المحن حتى يتمنى الأحياء الموت‏.‏

وقال الأخفش‏:‏ العوافى واحدها عافية، وهى التى تطلب أقواتها، والمذكر عاف، والعوافى والمعتفى التى تطلب فضلك‏.‏

قال الأعشى‏:‏ تطوف العفاة بأبوابه كما تطوف النصارى ببيت الوثن يعنى بالعفاة‏:‏ طلاب الحاجات‏.‏

قال المهلب‏:‏ وهذا الحديث يدل أن المدينة تُسكن إلى يوم القيامة وإن خلت فى بعض الأوقات، لقصد هذين الراعيين بغنمهما إلى المدينة، وهذا يكون قرب قيام الساعة، وأن آية قيام الساعة عند موت هذين الراعيين أحرى أن تصير غنمهما وحوشًا، فإن قيل‏:‏ فما معنى قوله‏:‏ ‏(‏آخر من يحشر راعيان من مزينة‏)‏ ولم يذكر حشرهما وإنما ذكر أنهما يخران على وجوهما أمواتًا‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه لا يُحشر أحد إلا بعد الموت، فهما آخر من يموت بالمدينة وآخر من يحشر بعد ذلك كما قال عليه السلام‏.‏

وقال صاحب ‏(‏العين‏)‏‏:‏ نعق بالغنم ينعق نعاقًا وإذا صاح بها‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏تفتح اليمن فيأتى قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم‏)‏ يعنى‏:‏ يحملون من المدينة إلى هذه البلاد المتفتحة لسعة العيش فيها، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون‏.‏

وفيه برهان جليل بصدق الرسول فى إخباره بما يكون قبل وقته، فأنجز الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ما وعد به أمته فَفُتحت اليمن قبل الشام وفُتحت الشام قبل العراق وكمل ذلك كله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون‏)‏ يعنى‏:‏ لفضل الصلاة فى مسجده، التى هى خير من ألف صلاة فيما سواه، ولما فى سكنى المدينة والصبر على لأوائها وشدتها، فهو خير لهم مما يصيبون من الدنيا فى غيرها، والمراد بالحديث‏:‏ الخارجون عن المدينة رغبة عنها كارهين لها، فهؤلاء المدينةُ خير لهم، وهم الذين جاء فيهم الحديث ‏(‏أنها تنفى خبثها‏)‏ وأما من خرج من المدينة لحاجة أو طلب معيشة أو ضرورة ونيته الرجوع إليها فليس بداخل فى معنى الحديث والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يبسون‏)‏ فقال أبو عبيد‏:‏ يقال فى الزجر إذا سقت حمارًا أو غيره‏:‏ بس بس، وهو من كلام أهل اليمن، وفيه لغتان‏:‏ بَسَسْتُ وأَبْسَسْتُ، فيكون على هذا يَبسون ويُبسون بفتح الباء وضمها‏.‏

وقال الخليل‏:‏ بس زجر للبغل والحمار، بضم الباء وفتح السين، تقول‏:‏ بس بس، يقال منه‏:‏ يَبُسون ويُبِسون‏.‏

قال أبو عمر الشيبانى‏:‏ يقال‏:‏ بس فلان كلابه أى‏:‏ أرسلها‏.‏

باب الإيمَانُ يَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏إِنَّ الإيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أن المدينة لا يأتيها إلا المؤمن، وإنما يسوقه إليها إيمانه ومحبته فى النبى صلى الله عليه وسلم فكأن الإيمان يرجع إليها كما خرج منها أولا، ومنها ينتشر كانتشار الحية من جحرها، ثم إذا راعها شىء رجعت إلى جحرها، فكذلك الإيمان لما دخلته الدواخل لم يقصد المدينة إلا مؤمن صحيح الإيمان‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ قال الأصمعى‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏يأزر‏)‏ يعنى ينضم إليها، ويجتمع بعضه إلى بعض‏.‏

قال الأصمعى‏:‏ وأخبرنى عيسى بن عمر، عن الأسود الديلى أنه قال‏:‏ إن فلانًا إذا سئل أرز وإذا دُعى اهتز‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ يعنى‏:‏ إذا سئل المعروف تضام، وإذا دعى إلى طعام وغيره مما يناله اهتز لذلك‏.‏

باب إِثْمِ مَنْ كَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ

- فيه‏:‏ سَعْد، قَالَ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏لا يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إِلا انْمَاعَ، كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِى الْمَاءِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏لا يكيدُ أهلَ المدينةِ أحد‏)‏ أى‏:‏ لا يدخلها بمكيدة ولا يمكن يطلب فيها غرتهم ويفترس عورتهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إلا انماع‏)‏ أى‏:‏ إلا ذاب كما يذوب الملح فى الماء، يقال منه‏:‏ ماع العسل فى الماء، فهو يماع إيماعًا، وهو عسل مائع، وقد ماع يميع ميعًا مويعًا، وتَمَيع الشراب إذا ذهب وجاء، فهو يتميع تميعًا‏.‏

باب آطَامِ الْمَدِينَةِ

- فيه‏:‏ أُسَامَةَ، أن النَّبِىّ عليه السَّلام وقف عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى‏؟‏ إِنِّى لأرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلالَ بُيُوتِكُمْ، كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ مُثِّل للنبى صلى الله عليه وسلم الفتن التى حدثت بعده فرآها عيانًا، وأنذر بها عليه السلام قبل وقوعها، وهذه علامة من علامات نبوته؛ لإخباره عن الغيب فى ذلك، فكانت الفتن بعده كالقطر كما أخبر وخبره الصادق المصدوق‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ الطم‏:‏ الحصن المبنى بالحجارة، والجمع‏:‏ آطام‏.‏

باب لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ الدَّجَّالُ

- فيه‏:‏ أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلائِكَةٌ لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلا الدَّجَّالُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبو سَعِيد، حَدَّثَنَا النبِىّ عليه السَّلام طَوِيلا عَنِ الدَّجَّالِ، فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَنْ قَالَ‏:‏ ‏(‏يَأْتِى الدَّجَّالُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِى بِالْمَدِينَةِ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ، أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ، فَيَقُولُ‏:‏ أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِى حَدَّثَنَا عَنْكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ‏:‏ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِى الأمْرِ‏؟‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ لا، فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ‏:‏ حِينَ يُحْيِيهِ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّى الْيَوْمَ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ‏:‏ أَقْتُلُهُ فَلا أُسَلَّطُ عَلَيْهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ إِلا عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا، ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلاثَ رَجَفَاتٍ، فَيُخْرِجُ اللَّهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ‏)‏‏.‏

قال الأخفش‏:‏ أنقاب المدينة‏:‏ طرقها، الواحد‏:‏ نقب، وهو من قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَقَّبُوا فِى الْبِلاَدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 36‏]‏ أى‏:‏ جعلوا فيها طرقًا ومسالك‏.‏

قال غيره‏:‏ ونقاب أيضًا جمع نقب، ككلاب وكلب، ويجمع فعل أسمًا على غير فعال وفعول قياسًا ومطردًا‏.‏

وفى هذه الأحاديث برهان ظهر إلينا صحته، وعلمنا أن ذلك من بركة دعائه صلى الله عليه وسلم للمدينة، وقد أراد عمر والصحابة أن يرجعوا إلى المدينة حين وقع الوباء بالشام؛ ثقة منهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى أمنهم من دخول الطاعون بلدهم، ولذلك نوقن أن الدجال لا يستطيع دخولها البتة، وهذا فضل عظيم للمدينة‏.‏

وقد أخبر الله تعالى أنه يوكل الملائكة بحفظ من شاء من عباده من الآفات والعدو والفتن، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏ يعنى‏:‏ بأمر الله لهم بحفظه، وما زالت الملائكة تنفع المؤمنين بالنصر لهم والدعاء والاستغفار ويستغفرون لذنوبهم، وسأذكر معنى حديث الدجال وفتنته للناس فى كتاب الفتن إن شاء الله‏.‏

وفى حديث أنس أن الدجال لا يدخل مكة أيضًا، وهذا فضل كبير لمكة والمدينة على سائر الأرض، فإن قيل‏:‏ إن قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يدخل المسيح‏)‏ يعارضه قوله فى حديث أنس‏:‏ ‏(‏ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات‏)‏ والرجف رعب، قال المهلب‏:‏ ليس يعارض، وإنما الرجفة تكون من أهل المدينة على من بها من المنافقين والكافرين فيخرجونهم من المدينة بإخافتهم إياهم تعاطيًا عليهم وعلى الدجال، فيخرج المنافقون إلى الدجال فرارًا من أهل المدينة ومن قوتهم عليهم، والله أعلم‏.‏

باب الْمَدِينَةُ تَنْفِى الْخَبَثَ

- فيه‏:‏ جَابِر، جَاءَ أَعْرَابِىٌّ النَّبِىَّ عليه السَّلام فَبَايَعَهُ عَلَى الإسْلامِ، فَجَاءَ مِنَ الْغَدِ مَحْمُومًا، فَقَالَ‏:‏ أَقِلْنِى، فَأَبَى ثَلاثَ مِرَارٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِى خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ زَيْدَ، لَمَّا خَرَجَ الرسول صلى الله عليه وسلم إِلَى أُحُدٍ، رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ‏:‏ نَقْتُلُهُمْ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ‏:‏ لا نَقْتُلُهُمْ فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏(‏فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 88‏]‏ وَقَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّهَا تَنْفِى الرِّجَالَ كَمَا تَنْفِى النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ‏)‏‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ كان هذا الأعرابى من المهاجرين، فأراد أن يستقيل النبى عليه السلام فى الهجرة فقط، ولم يُرد أن يستقيله فى الإسلام، فأبى عليه السلام ذلك فى الهجرة؛ لأنها عون على الإثم، وكان ارتدادهم عن الهجرة من أكبر الكبائر؛ ولذلك دعا لهم الرسول فقال‏:‏ ‏(‏اللهم أمض لأصحابى هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم‏)‏‏.‏

فى هذا من الفقه أن من عقد على نفسه أو على غيره عقد الله، فلا يجوز له حله؛ لأن فى حله خروج إلى معصية الله، وقد قال الله‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ والدليل على أنه لم يرد الارتداد عن الإسلام أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولو كان خروجه عن المدينة خروجًا عن الإسلام لقتله عليه السلام حين خرج، وإنما خرج عاصيًا، ورأى أنه معذور لِمَا نزل به من الوباء، ولعله لم يعلم أن الهجرة فرض عليه وكان من الذين قال لهم فيهم‏:‏ ‏(‏وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 97‏]‏ فقال فيه عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن المدينة كالكير تنفى خبثها‏)‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإن المنافقين قد سكنوا المدينة وماتُوا فيها ولم تنفهم‏؟‏ قيل‏:‏ إن المنافقين كانت دارهم ولم يسكنوها اعتباطًا بالإسلام ولا حبًا له، وإنما سكنوها لما فيها من أصل معاشهم، ولم يُرد عليه السلام بضرب المثل إلا من عقد الإسلام راغبًا فيه ثم خبث قلبه، ولم يصح عندك أن أحدًا ممن لم تكن له المدينة دارًا فارتد عن الإسلام ثم اختار السكنى فيها، بل كلهم فَرَّ إلى الكفر راجعًا، فبمثل أولئك ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل‏.‏

وقال المهلب‏:‏ كان المنافقون الساكنون بالمدينة قد ميزهم الله كأنهم بارزون عنها؛ لما وسمهم به من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِى الصَّدَقَاتِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 79‏]‏، و‏)‏ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 61‏]‏ وبقوله‏:‏ ‏(‏وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 30‏]‏ فكانوا معروفين معينين، وأبقاهم صلى الله عليه وسلم لئلا يقول الناس‏:‏ إن محمدًا يقتل أصحابه أو ينفيهم، والنفى كالقتل‏.‏

ومما يدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 88‏]‏ فَبَيَّنَ منكرًا عليهم اختلافَهم فى قتلهم، فعرفهم الله أنه أركسهم بنفاقهم، فلا يكون لهم صنع ولا جمع، ولا يسمع لهم قول، مع أنه قد ختم الله أنهم لا يجاورونه فيها إلا قليلا، فنفتهم المدينة بعده عليه السلام لخوفهم القتل، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 61‏]‏ فلم يأمنوا فخرجوا، فصح إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم إنها تنفى خبثها، لكن ليس ذلك ضربة واحدة، لكن الشىء بعد الشىء حتى يخلص أهلها الطيبين الناصعين وقت الحاجة إليهم فى العلم؛ لأنهم فى حياته عليه السلام مستغنى عنهم، فلما احتيج إليهم بعده فى العلم حفظتهم بركة المدينة فنفت خبثها‏.‏

قال غيره‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏المدينة كالكير‏)‏ إنما هو تمثيل منه وتنظير، ففيه دليل على جواز القياس بين الشيئين إذا اشتبها فى المعنى، فشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فى نفيها مَنْ خبث قلبه بالكير الذى ينفى خبث الحديد حتى يصفو، وقوله‏:‏ ‏(‏ينصع طَيِّبُها‏)‏ هو مثل ضربه للمؤمن المخلص الساكن فيها، الصابر على لأوائها وشدتها مع فراق الأهل والمال والتزام المخافة من العدو، فلما باع نفسه من الله والتزم هذا بأن صدقُه، ونصع إيمانه وقوى؛ لاغتباطه بسكنى المدينة وتقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ينصع ريح الطيب فيها ويزيد عبقًا على سائر البلاد، خصوصية خص الله بها بلدة رسوله صلى الله عليه وسلم التى اختار تربتها لمباشرة جسده الطيب المطهر صلى الله عليه وسلم، وقد جاء فى الحديث أن المؤمن يقبر فى التربة التى خلق منها، فكانت بهذا تربة المدينة أفضل الترب كما هو صلى الله عليه وسلم أفضل البشر؛ فلهذا والله أعلم تتضاعف ريح الطيب فيها على سائر البلاد‏.‏

بَاب

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَىْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ‏)‏‏.‏

وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ، أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا‏.‏

استدل بعض الناس على أن المدينة أفضل من مكة بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة بضعف دعائه لمكة وقال آخرون ممن يرى أن مكة أفضل من المدينة‏:‏ لو كان تضعيف الدعاء للمدينة دليلا على فضلها على مكة، لكانت الشام واليمن أفضل من مكة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد كرر الدعاء للشام واليمن مرات، وهذا لا يقوله مسلم، روى ابن عمر‏:‏ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اللهم بارك لنا فى شامنا، اللهم بارك لنا فى يمننا، قالها ثلاثًا‏)‏‏.‏

وهذا اعتراض غير لازم؛ لأن الأمة مجمعة أن مكة أفضل من الشام واليمن وجميع الأرض غير المدينة‏.‏

فلما تقرر هذا لم يكن تكرير الدعاء للشام واليمن موجبًا لفضلهما على مكة؛ لأنه لم يقصد بالدعاء لهما التفضيل على مكة، وإنما قصد التفضيل لهما على نجد، وإنما كان يصح هذا الاعتراض لو قرن بالدعاء للشام واليمن ثلاث مرات الدعاء لمكة أقل من ذلك، وإنما فى حديث ابن عمر الشام واليمن أفضل من نجد خاصة؛ لتكريره الدعاء للشام واليمن دون نجد، فكذلك تكريره الدعاء للمدينة دون مكة، فوجب فضلها على مكة، والله أعلم‏.‏

واحتج من فضل المدينة بقوله‏:‏ ‏(‏حركها من حبها‏)‏ يريد من حبه للمدينة، قال‏:‏ فقد خصها الله بفضائل كثيرة منها‏:‏ أن الله اختارها دارًا لنبيه أفضل خلقه، وجعلها منزل وحيه، وحباها بقبره، ومنها نشر الله دينه وبَلَّغ شريعته، إلى ما لا يحصى من فضائلها، وتعجيل سيره صلى الله عليه وسلم إذا نظر إليها من أجل أن قرب الدار يجدد الشوق للأحبة والأهل، ويؤكد الحنين إلى الوطن، وفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة‏.‏

باب كَرَاهِيَةِ الرسول صلى الله عليه وسلم أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ

- فيه‏:‏ أَنَس، أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا بَنِى سَلِمَةَ أَلا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ‏)‏‏.‏

إنما أراد عليه السلام ألا تعرى المدينة وأن تعمر ليعظم المسلمون فى أعين المنافقين والمشركين، إرهابًا وغلظة عليهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ألا تحتسبون آثاركم‏)‏ يعنى‏:‏ فى الخطا إلى المسجد؛ ولذلك قال أبو هريرة‏:‏ إن أعظمكم أجرًا أبعدكم دارًا، قيل‏:‏ لِمَ يا أبا هريرة‏؟‏ قال‏:‏ من أجل كثرة الخطا‏.‏

وهذا لا يكون من رأى أبى هريرة؛ لأن الفضائل لا تدرك بالقياس، وقد ترجم لهذا الحديث فى كتاب الصلاة باب احتساب الآثار‏.‏

بَاب

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا بَيْنَ بَيْتِى وَمِنْبَرِى وقبرِى رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِى عَلَى حَوْضِى‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، لَمَّا قَدِمَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى، يَقُولُ‏:‏ كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِى أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَكَانَ بِلالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَقُولُ‏:‏ أَلا لَيْتَ شِعْرِى هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ بِوَادٍ وَحَوْلِى إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِى شَامَةٌ وَطَفِيلُ ‏(‏اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ‏)‏، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِى صَاعِنَا، وَفِى مُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ‏)‏، قَالَ‏:‏ وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَهِىَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ، قَالَتْ‏:‏ فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِى نَجْلا، مَاءً آجِنًا‏.‏

- وفيه‏:‏ عُمَرَ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنِى شَهَادَةً فِى سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِى فِى بَلَدِ رَسُولِكَ صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏روضة من رياض الجنة‏)‏ يحتمل أن يكون على الحقيقة، ويحتمل أن يكون على المجاز، فوجه الحقيقة أن يكون الموضع الذى بين المنبر والقبر يوم القيامة فى الجنة روضة، واحتج قائل هذا بقوله تعالى عن أهل الجنة روضة، واحتج قائل هذا بقوله تعالى عن أهل الجنة‏:‏ ‏(‏وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 74‏]‏ قالوا‏:‏ فدلت هذه الآية أن الجنة تكون فى الأرض يوم القيامة‏.‏

ووجه المجاز أن يكون معناه أن من صلى بين المنبروالقبر فقد استوجب روضة فى الجنة، فيجازى بها يوم القيامة على قصده وصلاته فى هذا الموضع، كما قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏ارتعوا فى رياض الجنة‏)‏ يعنى‏:‏ حلق الذكر والعلم لما كانت مؤدية إلى الجنة، ويكون معناه التحريض على زيارة قبر النبى عليه السلام والصلاة فى مسجده، وكذلك يدل قوله‏:‏ ‏(‏صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه‏)‏ على الحض والندب على قصده والصلاة فيه والزيارة له، وقد بسطت الكلام فى هذا الحديث فى كتاب الصلاة فى باب‏:‏ فضل ما بين القبر والمنبر، بأسبغ مما ذكرته ها هنا‏.‏

وقول عمر‏:‏ اللهم اجعل موتى فى بلد رسولك صلى الله عليه وسلم‏.‏

احتج به من فضل المدينة على مكة، وقالوا‏:‏ لو علم عمر بلدة أفضل من المدينة لدعا ربه أن يجعل موته وقبره فيها، وكان مما استُدل به على فضلها أن الله لما اختارها لقبر نبيه أفضل البشر عُلم أنه لم يختر له إلا أفضل البقاع، وقد جاء أن ابن آدم إنما يدفن فى التربة التى خلق منها، وقد ذكرنا ذلك‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ وأما حديث عائشة حين وُعك أبو بكر وبلال وإنشادهما فى ذلك؛ فإن الله تعالى لما ابتلى نبيه بالهجرة وفراق الوطن ابتلى أصحابه بما يكرهون من الأمراض التى تؤلمهم، فتكلم كل إنسان منهم حسب يقينه وعلمه بعواقب الأمور فتعزى أبو بكر عند أخذ الحمى له بما ينزل به الموت فى صباحه ومسائه، ورأى أن ذلك شامل للخلق، فلذلك قال‏:‏ كل امرىِِء مصبح فى أهله‏.‏

يعنى‏:‏ تصبحه الآفات وتمسيه، وأما بلال فإنما تمنى الرجوع إلى مكة وطنه الذى اعتاده ودامت فيه صحته، فبان فضل أبى بكر وعلمه بسرعة فناء الدنيا حتى الموت بشراك نعله‏.‏

فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نزل بأصحابه من الحُمَّى والوباء خشى كراهية البلد، لما فى النفوس من استثقال ما تكرهه، فدعا الله فى رفع الوباء عنهم، وأن يحبب إليهم المدينة كحبهم مكة وأشد؛ فدل ذلك أن أسباب التحبيب والتكريه بيد الله، وهبة منه يهبها لمن شاء، وفى هذا حجة واضحة على من كذب بالقدر؛ إِذِ الذى يملك النفوس فيجب إليها ما أحب، ويكره إليها ما كره هو الله، فأجاب دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، فأحبوها حبا أدامه فى نفوسهم حتى ماتوا عليه‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏وصححها‏)‏ ففيه من الفقه أن الله أباح للمؤمن أن يسأل ربه صحة جسمه وذهاب الآفات عنه إذا نزلت به، كسؤاله إياه فى الرزق والنصر، وليس فى دعاء المؤمن ورغبته فى ذلك إلى الله لوم ولا قدح فى دينه، وقد كان من دعاء النبى صلى الله عليه وسلم كثيرًا أن يقول‏:‏ ‏(‏وقونى فى سبيلك‏)‏ وفى هذا رد على الصوفية فى قولهم‏:‏ إن الولى لا تتم له الولاية إلا تم له الرضا بجميع ما نزل به ولا يدعوا الله فى كشف ذلك عنه، فإن دعا فليس من الولاية فى حال الكمال، وقد ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ فى قولهم هذا بمحمد عليه السلام وأصحابه، وقد كان إذا نزل به شىء يكثر عليه الدعاء والرجاء فى كشفه‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏وانقل حُمَّاها إلى الجحفة‏)‏ فكانت الجحفة يومئذ دار شرك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يدعوا على من لم يجب إلى الإسلام إذا خاف منه معونة أهل الكفر، حين يئس منهم فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف‏)‏ ودعا على أهل الجحفة بالحمى ليشغلهم بها، فلم تزل الجحفة من يومئذ أكثر بلاد الله حمى، وإنه يتقى شرب الماء من عينها الذى يقال له‏:‏ عين حم، وقَلَّ من شرب منه إلا حُمَّ، وهو متغير الطعم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏رفع عقيرته‏)‏ يعنى‏:‏ صوته، وأصل ذلك عند العرب أن رجلا قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى وصرخ بأعلى صوته؛ فقيل لكل رافع صوته‏:‏ قد رفع عقيرته، ففيه من المعانى جواز هذا النوع من الغناء، وهو نشيد الأعراب للسفر بصوت رفيع‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وهذا النوع من الغناء هو المطلق المباح بإجماع الحجة، وهو الذى غنى به فى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يَنْهَ عنه، وهو الذى كان السلف يجيزون ويسمعون، وروى سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال‏:‏ نعم زاد الراكب الغناء نصبًا، وروى ابن وهب، عن أسامة وعبد الله ابنى زيد بن أسلم، عن أبيهما زيد، عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال‏:‏ الغناء من زاد الراكب‏.‏

وروى ابن شهاب، عن عمر بن عبد العزيز أن محمد ابن نوفل أخبره أنه رأى أسامة بن زيد واضعًا إحدى رجليه على الأخرى بمعنى النصب‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وإنما تسميه العرب النصب لنصب المتغنى به صوته وهو الإنشاد له بصوت رفيع‏.‏

وروى ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبيه أنه سمع عبد الله بن الأرقم رافعًا عقيرته يتغنى‏.‏

قال عبد الله بن عتبة‏:‏ والله ما رأيت رجلا أخشى لله من عبد الله بن الأرقام‏.‏

وقد تقدم شىء من هذا المعنى فى كتاب الصلاة فى باب‏:‏ سنة العيدين لأهل الإسلام، عند ذكر الجاريتين اللتين غنتا فى بيت عائشة يوم العيد، وسيأتى ما يحل من الغناء ويحرم فى كتاب الاستئذان فى باب‏:‏ كل لهو فباطل إذا شغله عن طاعة الله‏.‏

وفى حديث عائشة من الفقه تمثل الصالحين والفضلاء بالشعر، وفيه عيادة الجلّة السادة لعبيدهم؛ لأن بلالا أعتقه أبو بكر الصديق وكانت عائشة تزوره، وكان ذلك قبل نزول الحجاب‏.‏

والإذخر والجليل ينبتان بمكة، وشامة وطفيل جبلان بها، وقال الفكهانى‏:‏ بينهما وبين مكة نحو ثلاثين ميلا‏.‏

قال الخطابى‏:‏ وكنت مرة أحسبهما جبلين حتى تبين لى أنهما عينان‏.‏

‏(‏بطحان يجرى نجلا‏)‏ بطحان اسم للكمان المنبطح، وهو المستوى المتسع، ويجرى نجلا‏:‏ يريد واسعًا، تقول العرب‏:‏ استنجل الوادى‏:‏ إذا اتسع جريه، ومنه العين النجلاء الواسعة‏:‏ وطعنة نجلاء أى‏:‏ واسعة، والأجن والآجن‏:‏ المتغير‏.‏

قال الأعشى‏:‏

وقليب آجن كأن من ‏[‏الريـ *** ـش‏]‏ بأرجائه لُقُوطَ نصَال ***